مصر، عام الإفلات من العقاب وغياب المحاسبة
بيان صحفي
تقديم:قالت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية اليوم: إن أسوأ الأزمات الحقوقية في مصر منذ عقود استمرت بغير انفراج في 2014، في ظل انتهاكات هائلة ومنهجية للحقوق والحريات الأساسية، رغم بدء العام بدستور جديد واعد. وفي بيان يوافق نهاية العام، قالت المبادرة المصرية إن الدستور الجديد، رغم أوجه القصور فيه، قد أسس تدابير حماية جديدة وهامة للمواطنين من القمع والظلم، ولكنه، للأسف، مع انقضاء العام تعرضت معظم سبل الحماية والضمانات المكرسة في هذا الدستور للتجاهل، بينما تم انتهاك بعضها على نحو صارخ ـ في الأغلب ـ من جانب الحكومة، ولا سيما فيما يتعلق بضمان سلامة الإجراءات في أثناء المحاكمات، والحق في التجمع السلمي، والحق في حرية تكوين الجمعيات، وحرية التعبير، والحق في العدالة الاجتماعية، وحتى الحق الأساسي في الحياة.
وتستمر تعديات ممثلي الدولة على حقوق المواطنين على خلفية تهديد إرهابي حقيقي في سيناء، يمتد في أحيان كثيرة إلى جهات أخرى من البلاد، مما يعمق من مناخ الخوف في البلاد. وقد اختارت الحكومة التعامل مع مشكلة اﻹرهاب الخطيرة كذريعة في أحيان كثيرة للتنصل من الالتزامات الدستورية والدولية بممارسة ضبط النفس وتعزيز حقوق الإنسان، ولو في أحلك الظروف. وتعتقد المبادرة أن انتهاك حقوق الإنسان لا يقوض سيادة القانون فحسب، بل يخفق أيضًا في مكافحة الإرهاب، أو حتى يغذيه من طريق غير مباشر، إذ يفقد آلاف الأشخاص ثقتهم في مؤسسات الدولة فينفذون بأيديهم ما يعتقدون أنه القانون.
وقد حققت المبادرة في تهديدات جسيمة لحقوق المصريين وسلطت عليها الأضواء في 2014، في مجالات مختلفة، منها: العدالة الجنائية، والعدالة الاقتصادية والاجتماعية، والحريات المدنية.
العدالة الجنائية: تُرسِّخ الإفلات من العقاب
شهد عام 2014 على تدهور في تعزيز الضمانات الحقوقية داخل منظومة العدالة الجنائية، فترك الآلاف من ضحايا الانتهاكات الجسيمة خارج حماية القانون بينما منح صكًّا على بياض لمؤسسة إنفاذ القانون كي تعمل فوق القانون وبدون خوف من المحاسبة.
فاستمر عنف الشرطة في التعامل مع المظاهرات وغير ذلك من أحداث العنف السياسي بدون هوادة، وإن على نطاق أضيق مما كان في 2013، نتيجة للحظر شبه التام للمظاهرات المناهضة للحكومة. أما المظاهرات التي وقعت في 2014، بما في ذلك داخل الجامعات، فقد فرقتها الشرطة باستخدام القوة المفرطة، والمميتة بغير مسوغ في بعض الأحيان. كما أن إساءة استخدام الشرطة لسلطاتها، التي تجلت في استخدام القوة والأسلحة النارية دون وجه حق، إضافة إلى التعذيب وغيره من ضروب إساءة المعاملة، لم تقتصر على استهداف من اعتُبِروا من المعارضين السياسيين، بل تمت أيضًا وعلى نحو روتيني في سياق أعمال إنفاذ القانون العادية، وبحق مشتبهٍ بهم في قضايا القانون العادي. وسارعت الشرطة إلى استخدام الأسلحة النارية بدون احترام لمبدأي الضرورة والتناسب، واللجوء إلى الذخيرة الحية حيث لم يكن استخدامها ضروريًّا، لمنع وفاة أو إصابة جسيمة. وقد أدت تصرفات الشرطة إلى وفيات وإصابات شملت فيما شملت بعض المارة. وعلى سبيل المثال، فقد وثقت المبادرة واقعة في كفر الدوار في 13 يونيو 2014، قامت فيها الشرطة عند تنفيذ أمر اعتقال بفتح النار على نحو عشوائي وطائش، فأصابت سيدتين كانتا تطلان من نافذتي منزليهما. ولحقت بإحدى الضحايا إصابة جسيمة في عينها، وتلقت العلاج في مستشفى.
وحصدت الهجمات العنيفة لجماعات إسلامية مسلحة ـ استهدفت في الأساس أفراد الجيش والشرطة ومبانيهم ونقاط تفتيشهم ومركباتهم ـ أرواح 308 من أفراد قوات الأمن، بحسب تقارير إعلامية رصدتها المبادرة. وأدت هذه الهجمات وتصاعد التهديد الإرهابي إلى رد فعل أمنى واسع النطاق، أغفل الالتزام بالقانون وانتهك حقوق الإنسان في حالات عديدة. ووثقت المبادرة المصرية حالات اعتقال تعسفي، وإخفاء قسري وتعذيب شديد، ومحاكمات غير عادلة أمام محاكم عسكرية، لأفراد يشتبه في تورطهم في أنشطة تتعلق بالإرهاب. كما تأثر سكان شمال سيناء بوجه خاص بعمليات إخلاء وعقاب جماعي، واعتقالات تعسفية وعمليات إعدام خارج إجراءات القضاء وغير ذلك من أشكال القتل غير المشروع. وعملت الحكومة فعليًّا على خنق التغطية الصحفية المستقلة في المنطقة.
وتتواصل الانتهاكات من جانب قوات الأمن في مناخ من الإفلات ـ شبهتام ـ من العقاب، فيما تخفق الحكومة في إجراء تحقيقات كافية ومحايدة وتقديم المسؤولين عنها للمحاسبة، مما يزيد من جرأة هذه القوات على ارتكاب المزيد من الانتهاكات. وقد جاءت نتائج لجنة تقصي الحقائق في أحداث 30 يونيو، التي شكلها الرئيس المؤقت عدلي منصور، قاصرة دون التوقعات. وأعفت اللجنة قوات الأمن من الخطأ المهني الجسيم ولم تتطرق إلى أي إصلاحات قانونية أو مؤسساتية ضرورية لضمان عدم تكرار مثل هذه المذابح. وللأسف لم تنشر اللجنة تقريرها بالكامل، مكتفيةً بملخص له. ويتناقض تقرير اللجنة مع عدة تقارير لمنظمات حقوقية، منها: تحقيق المبادرة المصرية التفصيلي في فض اعتصام رابعة العدوية وغيره من حوادث العنف السياسي الذي اجتاح مصر في صيف 2013 ـ وقد تم نشر تحقيقات المبادرة وإطلاع لجنة تقصي الحقائق عليها في يونيو 2014.
ووقعت تلك الانتهاكات كلها على خلفية منظومة عدالة مصرية تتسم بانتقائية تثير الانزعاج، وتبدو وكأنها عازمة على تسوية حسابات سياسية ومعاقبة المعارضة أكثر مما هي معنية بتحقيق العدالة. واستمرت الاعتقالات الجماعية التي بدأت منذ 3 يوليو 2013 عند إزاحة الرئيس السابق محمد مرسي بالقوة في أعقاب مظاهرات واسعة النطاق، وسط رفض الحكومة لنشر إحصائيات عن أعداد المعتقلين السياسيين، المقدرة أعدادهم بما بين 22 ألفًا طبقًا لخدمة الأسوشيتد بريس الإخبارية وحتى 41 ألفًا بحسب المبادرة المستقلة "ويكي ثورة". وقد خضع آلاف المعارضين السياسيين للاتهام والاستبقاء رهن الحبس الاحتياطي لفترات طويلة بدون فرصة حقيقية للطعن في مشروعية حبسهم، بل والإدانة استنادًا إلى أدلة واهية وبدون جهد يذكر للتثبت من المسؤولية الجنائية الفردية. وكان من بين المسجونين ظلمًا، مسؤولة ملف العدالة الانتقالية في المبادرة، يارا سلام، التي تلقت حكمًا بالسجن لمدة عامين، لمزاعم بخرقها لقانون التظاهر القمعي والمطعون في دستوريته، رغم غياب أية أدلة ذات مصداقية بحقها.
من جهة أخرى، فنادرًا ما يجري التحقيق في انتهاكات أفراد الشرطة وغيرهم من المسؤولين، ناهيك عن تأديتها إلى ملاحقات أو إدانات. ومن الأمثلة الدالة هنا إسقاط التهم الجنائية عن الرئيس المخلوع حسني مبارك، وتبرئة وزير داخليته حبيب العادلي وستة من مساعديه من أية مسؤولية عن قتل المتظاهرين في أثناء ثورة 25 يناير.
أما النيابة العامة فقد تواطأت في السماح للجناة بالإفلات مع حبس المعارضين، كما تبين دراسة المبادرة التي تبرز الإصلاحات السياسية والقانونية المطلوبة لضمان استقلال النيابة وحيدتها. وقد دأبت المحاكم بدروها على تطبيق معايير مختلفة في إثبات الجرائم، على حسب انتماء المتهمين إلى مسؤولي إنفاذ القانون أو عامة الشعب. فعلى سبيل المثال، في المحاكمة التي عرفتها وسائل الإعلام بقضية مطاي، أصدر القاضي 37 حكمًا بالإعدام و491 حكمًا بالسجن المؤبد في تهمة قتل رجل شرطة واحد يوم 14 أغسطس 2013. وحاول نفس القاضي إصدار 683 حكمًا بالإعدام في مقتل ضابط شرطة آخر في قرية العدوة بمحافظة! وكانت حجة المحكمة هي أن النية الإجرامية لقتل أي فرد من أفراد قوات الشرطة تمثل دليلاً كافيًا لإدانة الجميع بتهمة القتل أو الشروع فيه. ومع ذلك فقد دأبت المحاكم في الفترة نفسها على تبرئة رجال الشرطة الموجودين في مسرح الأحداث، متذرعة بنقص الأدلة التي تربط ضباطًا أفرادًا بمقتل المتظاهرين، أو بالدفاع عن النفس.
وفي تطور آخر مثير للانزعاج، صدر قانون يوسع من اختصاص المحاكم العسكرية بمحاكمة المدنيين في أكتوبر، ومنذ صدوره أحيل مئات المتهمين إلى المحاكم العسكرية بأثر رجعي.
ولم تعمل الاعتقالات التعسفية، وإساءة استخدام الحبس الاحتياطي لقمع المعارضة، والإدانات الجماعية بأدلة واهية، إلا على مفاقمة الأوضاع المزرية والاكتظاظ في السجون المصرية. فتكررت موضوعات التعذيب والمعاملة اللاإنسانية وتدهور الظروف المعيشية في شهادات جمعتها المبادرة، مما أطلق موجة من الإضراب عن الطعام في سجون مصر. وتثير القلق بوجه خاص مؤشرات خطيرة تُظهِر تصاعدًا مثيرًا للانزعاج في الاستخدام المفرط للقوة، والوحشية، والاعتداء بالضرب والسب وغير ذلك من أشكال المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة من جانب مسؤولي إنفاذ القانون في مناخ من ترسيخ الإفلات من العقاب. وقد وثقت المبادرة أيضًا حالات من الإساءة الجماعية بحق مجموعات من السجناء السياسيين بما في ذلك سجني وادي النطرون والقناطر، ومِرفَق الأحداث في كوم الدكة. ويشكو سجناء سابقون وأقارب لهم ومحامون من إخفاق السلطات في تلبية الاحتياجات الأساسية لنزلاء السجون من حيث التغذية والنظافة الشخصية والرعاية الصحية والتواصل مع العالم الخارجي. وقد أشارت دراسة نشرتها المبادرة في يوليو إلى الحالة المروعة للخدمات الطبية في السجون المصرية، التي تؤدي إلى حالات وفاة، كان يمكن منعها، حيث أفادت تقارير إعلامية وصادرة عن منظمات حقوقية بوقوع 100 وفاة في أثناء الاحتجاز في 2014، ناجمة في المقام الأول عن التعذيب، والإهمال الطبي، والظروف اللاإنسانية وغير الصحية. وتعمل أوجه القصور في الإطار القانوني الحاكم للاحتجاز، وكذلك الحرمان المستمر للمراقبين المستقلين، ومنهم المنظمات غير الحكومية، من الوصول إلى السجون، على تسهيل التدهور في أوضاع السجون. ورغم تصريحات وزارة الداخلية المرحِبة بزيارات المجتمع المدني، إلا أن الطلبات التي قدمتها المبادرة وغيرها من المنظمات المستقلة في 2014 لم تلقَ سوى الرفض أو التجاهل.
العدالة الاقتصادية والاجتماعية: غموضٌ في السياسات وطوفانٌ من القوانين والتشريعات وفشلٌ لم يحاسَب عليه أحدٌ
شهد عام 2014 تغييرات مفصلية في بعض ملفات العدالة الاجتماعية من المنتظر أن تستمر نتائجها على مدى أعوام طويلة لتؤثر في شرائح واسعة من المجتمع المصري. وقد ظهر غياب الشفافية كعامل مشترك في أغلب ملفات العدالة الاجتماعية التي ثارت في 2014، حيث امتنعت الحكومة عن فتح قنوات الاتصال والتشاور مع الفئات المتأثرة بالقرارات الاقتصادية المثيرة للجدل أو مع مؤسسات المجتمع المدني، وتم تمرير عدد من القوانين والقرارات في غياب برلمان منتخب، وغابت المصارحة والمساءلة في الأخطاء التي تم ارتكابها في ملفات الصحة والإسكان وغيرها من ملفات العدالة الاجتماعية مما قد يؤدي إلى مزيد من تآكل الثقة في مؤسسات الدولة.
وقد تناقضت تلك السلبيات مع صدور دستور جديد في بداية 2014، أكد على بعض الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والعمل على تقليل الفوارق بين الدخول، والالتزام بحد أقصى وحد أدنى للأجور مع التأكيد على بعض الحقوق، مثل: التزام الدولة بإنفاق حكومي على التعليم لا يقل عن 4% من الناتج القومي الإجمالي، ولا يقل عن 3% من الناتج القومي الإجمالي بالنسبة إلى الصحة. هذا بالإضافة إلى كفالة بعض الحقوق للمرأة وللعمال وللمسنين ولكن بعبارات فضفاضة تتيح الالتفاف على هذه الحقوق. وأبرزت دراسة المبادرة المصرية عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في دستور 2014 أن الفيصل النهائي هو في التطبيق الفعلي للدستور على أرض الواقع، نتيجة لغياب الإلزام في كثيرٍ من نصوصه. وقد أظهرت المراقبة والتحقيق في مدى تفعيل هذه الحقوق الدستورية على أرض الواقع على مدار 2014 فشل الحكومة في توفير شبكات الحماية الاجتماعية المطلوبة للفقراء في مواجهة الأزمة الاقتصادية، بالإضافة إلى استمرار غياب الشفافية مما يسمح باستمرار تفشي الفساد، وكسر الحكومة لوعودها المتكررة.
في ملفات الصحة والبيئة والإسكان:
وقد شهد عام 2014 إصدار العديد من التشريعات المتعلقة بالمسائل الاقتصادية والاجتماعية في غياب برلمان منتخب وفي غياب حوار مجتمعي ضروري حول كيفية مواجهة الأزمة المالية المتفاقمة ومن يتحملها. وجاءت ميزانية 2014-2015 لتُحَمِّل الفقراء جزءًا كبيرًا من عبء الإصلاح المالي وفي غياب تفاوض اجتماعي وسياسي حقيقي حول المشاركة في تحمل أعباء الأزمة، كما جاء في دراسة أطلقتها المبادرة المصرية في شهر يوليو الماضي.
لقد أبرزت الموازنة العجز عن تحقيق مستهدف المادة الدستورية المتعلقة بالإنفاق على الصحة والتعليم حيث كان الإنفاق الفعلي بعيدًا عما استهدفه الدستور فلم تتجاوز نسبة الإنفاق على الصحة نسبة الـ1.8% رغم الاستحقاق الدستوري بأن يصل الحد الأدنى إلى نسبة 3% مع حلول ميزانية 2016- 2017 كما بقى تقريبًا الإنفاق على التعليم كما كان في الموازنة السابقة مما يشكك في إمكانية وواقعية الوصول إلى النسب التي استهدفها الدستور.
أيضًا، فقد كان لرفع الدعم عن أسعار الطاقة التي يستهلكها الفقراء بطريق مباشر من خلال استخدامهم للمواصلات العامة أو من خلال زيادة أسعار استهلاك الكهرباء والاستخدام المنزلي للغاز أو بطريق غير مباشر من خلال تأثيرها السلبي على أسعار الغذاء وبالتالي على مستوى معيشة الفقراء وبخاصة في ظل ضعف شبكات الأمان الاجتماعي. ولم تعوض الحكومة المستهلكين البسطاء عن ارتفاع أسعار الغاز والكهرباء التي يستهلكونها منزليًّا، بينما سعت من أجل تعويض المستثمرين في الصناعات الكثيفة الاستهلاك للطاقة بالسماح لهم باستخدام الفحم كمصدر بديل للطاقة رغم ما له من تأثيرات صحية وبيئية خطرة.
وعلي صعيد سياسة الإسكان فقد أبرزت دراسة المبادرة عن الإسكان الاجتماعي وتحول سياساته من عصر مبارك حتى مشروع المليون وحدة، التي روج لها الرئيس عبد الفتاح السيسي، أن العامل المشترك بين المشروعين هو إنفاق المليارات من الجنيهات على مشاريع إسكان بنظام التمليك، من المفترض أن تستهدف "محدودي الدخل"، بينما يزاحم أبناء الطبقة المتوسطة والأغنياءُ الفقراءَ في الانتفاع بتلك المشروعات، ويصبح المستفيد الرئيسي منها شركات المقاولات الكبرى والمضاربين العقاريين. فبعد مرور 3 سنوات من بدء المشروع في 2011، والوعد بتسليم عشرات الآلاف من الوحدات للفقراء، لم يتم تسليم إﻻ 57 وحدة حتى منتصف نوفمبر في ظل إصرار الحكومة على نظام التمويل العقاري الذي يستثني القطاع غير الرسمي بالكامل وشريحة من الأكثر فقرًا في مصر، بينما يضغط بشدة على نفقات الفقراء المستفيدين من المشروع.
وقد شهد هذا العام أيضًا إثارة قضية التهاب الكبد الوبائي، بمناسبة الإعلان عن اكتشاف دواء لمعالجة ضحايا هذا الفيروس، الذين يبلغ عددهم في مصر ما بين الثمانية ملايين والخمسة عشر مليونًا من المواطنين. وقد كشف التدقيق في هذا الملف فشل الحكومة في الالتزام بالحق الدستوري للمواطنين في العلاج، بغض النظر عن خلفياتهم الاجتماعية في الحصول على الدواء وبأسعار في متناولهم. وقد أبرزت الدراسة التي أصدرتها المبادرة بعنوان: "علاج فيروس سي في مصر: لماذا تعد التكاليف تحديًا؟"، جذورَ أزمة الحق في الصحة في مصر، من حيث غياب الشفافية في الخيارات الاقتصادية وغياب إستراتيجية متكاملة وعدم وضع الفقراء على أجندة الاختيارات السياسية، بشكل يُهدر مبدأ الحق في الصحة،المنصوص عليه دستوريًّا.
وحتى عندما حاولت الحكومة أن تُفَعِّل المادة 18 من الدستور المصري، التي تُجَرِّم الامتناعَ عن تقديم العلاج بأشكاله المختلفة لكل إنسان في حالات الطوارئ أو الخطر على الحياة، فقد كان تنظيم هذا الحق في صورة قرار من رئيس الوزراء غير مؤيد بآليات وضوابط تنفيذية واضحة، وهو ما يثير الكثير من الشكوك حول جدية وفاعلية تنفيذ هذا القرار.
وترى المبادرة المصرية أن هناك غيابًا لأي توجه سياسي واضح في القضايا الاقتصادية المتعلقة بتقليل الفوارق الضخمة والمتزايدة في الدخول وتقليل الفقر وإصلاح الخدمات الاجتماعية التي تنهار وتهدد حقوق المصريين في الصحة والتعليم والإسكان، ويضاعف من الأزمة الراهنة غياب الشفافية في إدارة الموازنة العامة للدولة واستهداف الضبط المالي للصناديق الخاصة وإصلاح النظام الضريبي بدلًا من الحلول التي تعتدي على الإنفاق الاجتماعي الموجه إلى الفقراء في مجالات الصحة والتعليم والدعم. وقد أبرزت دراسة المبادرة المصرية المعنونة بـ"شفافية الموازنة العامة للدولة: الضرورة الاقتصادية الغائبة عن الواقع المصري"، أن مصر لا زال أمامها شوط طويل لكي تكون على مستوى معايير الشفافية الدولية بشكل يحقق هدفي الرشادة الاقتصادية وتعزيز حق المواطنين - وفي مقدمتهم الفقراء - في المشاركة في صنع السياسات العامة ومراقبتها.
الحريات المدنية: دستور يحتفي بحريات مدنية وسياسية لا يستطيع المواطنون التمتع بها
شهد العام الماضي أسوأ هجمة على الحريات المدنية والسياسية المحصنة دستوريًّا منذ عقود. وتركز هذا الهجوم في الحق في التجمع السلمي والتنظيم وحرية الضمير والمعتقد والحريات الدينية والحق في الخصوصية والمحاكمة العادلة إلى جانب طائفة واسعة من اﻻنتهاكات لعدد من الحقوق على أساس النوع الاجتماعي.
وعلى الرغم من التحسن النسبي في ضمانات حماية عدد من الحقوق اﻷساسية في دستور 2014 بالمقارنة بدستور 2012، إﻻ أن المبادرة المصرية خلصت إلى أن هذه التعديلات ما زالت "دون المأمول" . فعلى صعيد حرية الدين والمعتقد، اتسمت الوثيقة الدستورية الجديدة بالتراجع عن حماية المكونات اﻷربعة المتعارف عليها للحرية الدينية، وهي: الحق في اعتناق عقيدة أو دين معين دونما إكراه، و الحق في عدم اعتناق أي عقيدة على اﻹطﻻق، والحق في ممارسة الشعائر الدينية بحرية في إطار النظام واﻵداب العامة، والحق في تنشئة اﻷطفال حسب المعتقدات الدينية التي يعتنقها اﻵباء. فبينما أقرت المادة 64 بكفالة حرية اﻻعتقاد إﻻ أنها عادت وفرغت هذه الحرية من أحد أهم مكوناتها، سابقة الذكر، وهو الحق في ممارسة الشعائر الدينية بقصره على أتباع الديانات السماوية المعترف بها، من قبل المؤسسة الدينية الرسمية وحسب ، اﻷمر الذي يحرم عددًا من اﻷقليات الدينية من الحق في ممارسة شعائرها الدينية و يفتح الباب واسعًا لملاحقتها أمنيًّا، استنادًا إلى هذا النص الغامض. كذلك أعادت الوثيقة الدستورية الجديدة إنتاج نفس الصياغة الطائفية التي ركنت إليها الحكومات المصرية المتعاقبة في تنظيم اﻷحوال الشخصية واختيار القيادات الروحية للأقليات المعترف بها، بما يشكل تراجعًا حتى عن التراث الدستوري المصري وتجاهلاً لمعاناة قطاع واسع من المواطنين المصريين بسبب سيادة التفسيرات الكنسية المحافظة لشئون اﻷحوال الشخصية.
تابعت المبادرة المصرية تجليات هذه المواد في الممارسة التشريعية والعملية على مدار العام. فأصدرت تعليقها المطول على ﻻئحة انتخاب بابا اﻹسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية والتي أقرها المجمع المقدس. ورصدت المبادرة في تعليقها أشكالًا مختلفة من التمييز بين أعضاء الجماعة الدينية القبطية، تقرّها وتحصنها نصوص اللائحة المقترحة، وأكدت المبادرة في تعليقها على ضرورة حسم الجدل بشأن المادة الثالثة من الدستور عن طريق تفسير واضح لمضمونها، وللجهة المخاطبة بها بما يضمن عدم احتكار قيادات المؤسسة الدينية الرسمية لصياغة التشريعات المترتبة عليها. اهتمت المبادرة كذلك بعدد من النزاعات المتعلقة بالأحوال الشخصية للأقباط، وخصوصًا تلك المتعلقة بإمكانية الطلاق أو الزواج الثاني للأقباط. وعقدت المبادرة جلسة خاصة من جلسات منتدى الدين والحريات لمناقشة تشريع اﻷحوال الشخصية الموحد للمسيحيين المصريين المقترح من قبل وزارة العدل في ضوء عدد من اﻷحكام القضائية التي تواترت خلال العام الماضي وعلى رأسها حكم الانسلاخ من الملّة، وهو الحكم اﻷول من نوعه والذي يمكّن مواطنًا قبطيًّا من الطلاق لغير علّة الزنا.
واصلت المبادرة المصرية كذلك متابعتها الدقيقة للانتهاكات الواسعة التي تتعرض لها مختلف اﻷقليات الدينية وهي اﻻنتهاكات المستمرة منذ ما قبل يناير 2011 والتي طالت كافة مكونات الحرية الدينية. أرسلت المبادرة بعثة تقصي حقائق إلى قرية دير جبل الطير والتي تعرض أهلها لعقاب جماعي على يد قوات الشرطة في محافظة المنيا في أعقاب نزاع ذي طابع طائفي. كذلك واصلت المبادرة المصرية جهودها في متابعة محاكمات أصحاب اﻵراء المخالفة لمذهب اﻷغلبية المسلمة السنية استنادًا لما يعرف في قانون العقوبات المصري بازدراء اﻷديان. وأصدرت في هذا الشأن تعليقا مفصلاً على اﻷحكام القضائية الصادرة هذا العام بهذا الشأن. وأخيرًا تابعت المبادرة المصرية عن كثب عددًا من محاكمات المواطنين المنتمين إلى المذهب الشيعي. وترى المبادرة المصرية أن القاسم المشترك بين هذه المحاكمات جميعًا هو محاولة احتكار وتعميم خطاب ديني واحد يعين حدود الحريات الدينية ويقلص من ضماناتها.
في هذا السياق، لم يقتصر التضييق على الحريات الدينية خلال العام المنصرم على اﻷقليات الدينية المخالفة لمذهب اﻷغلبية المسلمة السنية وحسب، ولكنه امتد كذلك ليشمل المنتمين إلى هذه اﻷغلبية ذاتها عبر التضييق على أحد المكونات الجوهرية لحرية المعتقد وهو الحق في ممارسة الشعائر الدينية. فقد شهد العام الماضي سلسلة من القوانين والقرارات اﻹدارية لوزارة اﻷوقاف التي تهدف إلى إحكام قبضتها على إدارة أنشطة المساجد بل ومختلف أوجه النشاط الديني من وعظ وخطابة وتدريس. فقد تم إصدار قانون 51 لسنة 2014 الخاص بتنظيم الخطابة والتدريس في المساجد. وقد نصَّ القانون الجديد في مادته الخامسة على عقوبة الحبس بمدة لا تقل عن شهر ولا تتجاوز سنة، وغرامة لا تقل عن عشرين ألف جنيه ولا تزيد عن خمسين ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين لمن خالف المادة الثانية، التي تنص على عدم ممارسة الخطابة أو التدريس الديني، إلا وفق ترخيص من وزارة الأوقاف أو من مشيخة الأزهر، ومضاعفة العقوبة في حالة تكرار ذلك. وترى المبادرة المصرية في تغليظ العقوبة بهذا الشكل على خلفية الصراع السياسي الدائر مع التيارات الإسلامية، مؤشرًا خطيرًا على السعي ﻻحتكار كافة صور التعبير الديني وهو اﻻحتكار الذي يشكل امتدادًا لنفس منظومة التشريعات والسياسات الحاكمة لإدارة المساجد طوال القرن الماضي، وهو نفس اﻹطار الذي يتطابق مع تصورات التيارات الإسلامية نفسها عن ضرورة احتكار الحديث باسم الدين وتعميم تصور رسمي بعينه للإسلام. أفردت المبادرة المصرية دراسة مستقلة لرصد ملامح هذا اﻻحتكار وتجلياته وتناقضاته الداخلية كما أسلفنا. فأصدرت دراستها عن سياسات إدارة المساجد ثم أتبعتها بورقة موقف حول مسألة بناء دور العبادة والتي طرحت فيها تصورها المتكامل عن عملية تنظيم بناء دور العبادة في مصر وضرورة وجود تشريع موحد ينظم هذه المسألة في إطارٍ من كفالة حق ممارسة الشعائر الدينية للجميع دونما تمييز.
لم يُلقِ الصراع مع التيار الإسلامي بظلاله على أوضاع الحريات الدينية فقط، فقد انتهجت الإدارة اﻻنتقالية (يوليو 2013 حتى يونيو 2014) نهجًا صداميًّا مع كافة أشكال التعبير السلمي عن الرأي تحت دعوى مواجهة أنصار جماعة اﻹخوان المسلمين وحلفائها. بدأت بوادر هذا النهج الصدامي تتضح مع الفض الوحشي ﻻعتصامي أنصار الرئيس السابق محمد مرسي بميداني رابعة العدوية والنهضة، وما صاحبه وتبعه من أعمال قتل خارج القانون على نطاق غير مسبوق وانتهى بإلقاء القبض على آﻻف المواطنين بدعوى مخالفة أحكام قانون التظاهر الصادر في نوفمبر 2013. أمام هذا التضييق غير المسبوق على الحق في التجمع السلمي والعصف بضماناته أصدرت المبادرة المصرية ورقة موقف حول دستورية قانون التظاهر، فصّلت فيها أوجه تعارض مواده مع أحكام الدستور المصري وطالبت باﻹلغاء الفوري للقانون ودعت المحاكم المختلفة إلى عدم تطبيق أحكامه.
كذلك شهد 2014 تضييقًا متزايدًا على الحق في التنظيم متمثلاً في الإنذار الذي وجهته وزارة التضامن الاجتماعي للمنظمات غير الحكومية والمسجلة تحت قوانين أخرى لا تُخضعها ﻹشراف الوزارة بضرورة التسجيل الفوري كجمعيات أهلية وفقًا ﻷحكام القانون 84 لسنة 2002. وترى المبادرة المصرية في هذا اﻹنذار بادرة هجمة محتملة على منظمات المجتمع المدني ككل والمنظمات الحقوقية على وجه الخصوص بهدف تحصين سياسات الرئاسة والحكومة الجديدة من أي وجه من أوجه المراقبة أو النقد أو المحاسبة، خصوصًا مع اقتران هذا الإندار بحملة إعلامية تستهدف ترهيب هذه المنظمات وعرقلة جهودها إلى جانب الإعلان عن نسخة جديدة لمشروع قانون الجمعيات اﻷهلية الذي تنتوي الوزارة عرضه على البرلمان المقبل، أقل ما يمكن أن يوصف به أنه أكثر سلطوية من القانون الحالي الذي حاصر العمل اﻷهلي لأكثر من عشر سنوات. في مواجهة هذه الهجمة أطلقت المبادرة بالتعاون مع شركائها في العمل اﻷهلي والحقوقي حملة "المجتمع المدني: حق ليّ وليك"، والتي أصدرت عددًا كبيرًا من الوثائق والمواد التعريفية بمفهوم المجتمع المدني ودوره في الدفاع عن حقوق المواطنين المصريين على مدار ثلاثة عقود من الزمن. وعبرت الحملة كذلك عن رؤية هذه المنظمات الحقوقية لقانون جديد للجمعيات اﻷهلية يكفل استقلالية العمل اﻷهلي وديمقراطيته. وأعربت المبادرة المصرية وغيرها من المنظمات والمؤسسات المستقلة عن رغبتها واستعدادها في بدء حوار جدي مع الحكومة المصرية حول هذه التعديلات وغيرها من اﻹشكاليات التي تحيط بواقع العمل الحقوقي ومستقبله، بعيدًا عن لغة الترهيب والتخوين.
من جهة أخرى شهد ذلك العام أسوأ انتهاكات تعرفها مصر منذ عقود، لطائفة واسعة من الحقوق على رأسها الحق في الخصوصية والحق في المحاكمة العادلة على أساس الميل الجنسي. فخلال هذا العام استهدفت مباحث اﻵداب العامة بوزارة الداخلية قطاعًا واسعًا من المواطنين المصريين على أساس افتراض ميلهم الجنسي المثلي حتى وصل اﻷمر إلى محاكمة ما يقارب من 150 مواطنًا على اﻷقل بتهم من قبيل اعتياد ممارسة الفجور والتي يتم تفسيرها حصرًا على النحو الذي يسمح بمحاكمة المواطنين من أصحاب الميل الجنسي المثلي. واقترن بهذا اﻻستهداف حملة من التحريض الإعلامي تنتهك مقومات الحق في الخصوصية المنصوص عليها بمقتضى أحكام الدستور، هذا إلى جانب تعنت جهات التحقيق بشأن المتهمين في هذه القضايا على النحو الذي يؤدي ﻻنتهاكات واسعة للحق في المحاكمة العادلة. ويأتي هذا اﻻستهداف كخطوة على طريق تعميم صورة ذات ملامح أخلاقية محافظة عن الرئاسة والحكومة الحاليتين تسعى للتضيق على أشكال مختلفة من الحياة الخاصة باسم الحفاظ على الأخلاق واﻵداب العامة. رصدت المبادرة المصرية جملة اﻻنتهاكات تلك وتناولتها بالتعليق في بياناتها ومواقفها الرسمية وطالبت وزارة الداخلية بكف يدها عن أصحاب الميل الجنسي المثلي وتوفير ضمانات المحاكمة العادلة لكل المتهمين في هذه القضايا.
ملحوظة ختامية: التطلع إلى المستقبل
لم تكن الانتهاكات الجسيمة لحقوق المصريين في 2014 سوى استمرار لتقليد سلطوي بدأ منذ عقود. إلا أن 2014 شهد انحدارًا مثيرًا للانزعاج في التزام مؤسسات الدولة بالحياد تجاه المواطنين وباحترام القانون وفي فاعلية عملها – وهي نفس المؤسسات التي تواصل رغم كل هذا مقاومة الإصلاح والتغيير.
ومن المنتظر سقوط مزيد من ملايين المصريين تحت خط الفقر نتيجة للقرارات الاقتصادية في 2014، كما سيظل الآلاف في السجون بسبب آرائهم أو عقائدهم السياسية أو توجهاتهم الدينية أو الجنسية. وقد صدر ما يزيد على مائة حكم بالإعدام على معارضين سياسيين وغيرهم من المشتبه بهم في قضايا القانون العادي.
ويجري اتخاذ القرارات التي تؤثر في مجموع السكان في فراغ تشريعي، بدون شفافية وفي غياب لآليات المحاسبة.
أما الثقة في مؤسستي القضاء والأمن فهي تتآكل، وسط غياب لأية إرادة سياسية حقيقية لتقديم إصلاحات جادة.
ويهدد هذا الوضع نسيج البلاد الاجتماعي بالمزيد من الاستقطاب والفرقة، كما يطلق صافرات الإنذار بلجوء المزيد من الأفراد والجماعات إلى تولي الأمور بأيديهم، إما للثأر، أو لإسماع أصواتهم في غياب أية مساحة حرة للتعبير عن المظالم.