بين الدعاية والحقيقة: انتهاكات حقوق نزلاء سجون بدر
مقدمة
في مداخلة هاتفية مع برنامج تلفزيوني أذيع في سبتمبر 2021 أعلن رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي عن قرب افتتاح أكبر مجمع سجون في وادي النطرون، ليكون الأول بين سبعة أو ثمانية مجمعات مشابهة، وأن "المسجون في المجمع هيقضي عقوبته بشكل آدمي وإنساني.. حركة وإعاشة ورعاية صحية ورعاية إنسانية وثقافية وإصلاحية" بنظام يحاكي "السجون الأمريكية" والتي "لن يُعاقب فيها الشخص مرتين". بالطبع بدا هذا التصريح مُبشّرًا، لكن الإحالة إلى السجون الأمريكية كانت مقلقة، إذ سبق وتلقت الولايات المتحدة الأمريكية أكثر من 50 توصية دولية، إما بشأن غلق سجون غير قانونية مثل "جوانتانمو" أو تحسين أوضاع المحتجزين في السجون الواقعة داخل أراضيها، وتقليل اكتظاظ السجون، أو توصيات تخاطب الشرطيين والمسؤولين عن السجون بشأن سوء معاملة السجناء، وذلك خلال مراجعة سنة 2020 لسجلها في الاستعراض الدوري الشامل لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. لدى الولايات المتحدة الأمريكية سجل تاريخي سيء جدًا فيما يتعلق بمنظومة السجن والعقاب بشكل عام، خاصة إذا ما قورنت بقريناتها من الدول الصناعية أو ما يسمى بالديمقراطيات الراسخة.
بعد تصريح رئيس الجمهورية بثلاثة أشهر، افتُتح مجمع سجون آخر بمدينة بدر ليضم " ثلاثة مراكز فرعية". في تلك الأثناء انتشرت أخبار عن أن المجمعين الجديدين سيحلان محل 12 سجنًا قديمًا سيُخلوْن ويهدمون بعدما كانوا يشكلون ربع إجمالي السجون المصرية. فيما بعد أزيلت صفة النفع العام عن بعض السجون الخالية التي يعود تاريخ إنشاء عدد منها لـ 140 عامًا مضت، ونُقلت ملكية مبانيها وأراضيها من وزارة الداخلية لصالح الخزانة العامة، لتُقيد في الدفاتر بوصفها من أملاك الدولة الخاصة، تمهيدًا للتصرف فيها لأغراض استثمارية.
وقبل شهر من تصريحات رئيس الجمهورية حول تغيير خريطة السجون المصرية، أعلنت وزارة الداخلية عن عدد من التغييرات الشكلية على النصوص القانونية المنظمة للسجون، أُقرَّت بعد ذلك بتعديل تشريعي على قانون تنظيم السجون، ليصبح اسم مصلحة السجون "قطاع الحماية المجتمعية" كما تغيّر اسم المسجون إلى "نزيل" في "مركز إصلاح وتأهيل".
بنهاية عام 2021، عندما أعلنت وزارة الداخلية بدء "التشغيل التجريبي" لمركز الإصلاح والتأهيل في بدر، وصفته بأنه "صرح أمني متكامل"، ثم بدأ تشغيله الفعلي بعد نحو ستة أشهر، ليستقبل أعدادًا من المحبوسين احتياطيًا والمحكوم عليهم من سجون مختلفة، على أمل أن تتحسن ظروف احتجازهم. لم تجر عملية نقل المحتجزين للسجون الجديدة بشكل تدريجي، ومن الواضح أنها لم تكن مدروسة بالشكل الكافي، حيث لم تبلغ مصلحة السجون أيًا من المحتجزين أو أسرهم رسميًا وعلى وجه التحديد بموعد نقلهم من سجونهم القديمة، ولم توضح أيًا من السجون الجديدة ستكون وجهة النقل. ما أصاب الأهالي بالتخبط واضطرهم للسؤال في أكثر من مكان أملًا في التواصل مع ذويهم بعد الانقطاع الذي تسبب فيه النقل.
على مدار أربع سنوات، هي عمر مجمع سجون بدر، تتقابل روايتان: الأولى حكومية، تشيد بالأوضاع داخل سجون بدر بعد عدد قليل من الزيارات الرسمية المعلنة. وفي المقابل يتبنى عدد من المحتجزين وأسرهم ومحاموهم رواية مغايرة يؤكدون فيها على صعوبة الأوضاع وتفاقم أشكال مختلفة من العنف المُمارس ضدهم، والذي يبدو أنه أصبح أسهل وأكثر منهجية بسبب الأوضاع المؤسسية الجديدة، والأدوات التكنولوجية التي أُدخلت على نظام إدارة السجن وباتت تُستخدم بشكل عقابي، ما يجعل من إيداعهم في السجون الجديدة عقابًا مضاعفًا، سواء كانوا محبوسين احتياطيًا دون إدانة، أو محكومًا عليهم بعقوبات سالبة للحرية. ويضم مجمع بدر الأمني حتى لحظة إعداد التقرير للنشر عددًا من المحتجزين المحرومين من حقوقهم الأساسية كالتريض والقراءة والزيارة، وهي الحقوق التي لا تحتاج أي زيادة في الإنفاق أو تحديث بنيوي أو إنشاءات جديدة، بل فقط إلى قرار بالسماح والإتاحة للحد الأدنى من حقوق السجناء.
في سبتمبر 2022، تقدمت أسر عدد من المحتجزين في مجمع سجون بدر بشكاوى إلى المجلس القومي لحقوق الإنسان للنظر في تردي أوضاع ذويهم المعيشية، والتي لم تبرح ما عاناه بعضهم لفترات وصلت إلى ثماني سنوات في سجن طرة شديد الحراسة المعروف إعلاميًا باسم "العقرب"، حُرموا خلالها تمامًا من الزيارة والرعاية الطبية. تلخصت الشكاوي في احتجاز النزلاء في زنازين مضاءة على مدار الساعة بأنوار ساطعة لا تُطفأ أبدًا، وإخضاعهم للمراقبة الدائمة بكاميرات مثبتة في كل زنزانة. فضلًا عن وجود مشكلات في السباكة وأماكن التريض. واشتكى عدد من أهالي المحتجزين في سجن بدر3 من منعهم من الزيارة. مع توالي الشكاوى قال عضو المجلس ورئيس لجنة الشكاوى ولاء جاد الكريم إن سبب هذه المشكلات هو "ارتباك ما بعد النقل"، وأكد على أن المجلس أرسل الشكاوى جميعها للنيابة العامة ووزارة الداخلية وفي انتظار ردهم. توشك ثلاث سنوات على الانقضاء منذ إيداع الشكاوى، ولم يعلن عن وصول رد النيابة العامة أو وزارة الداخلية، فضلاً عن فحواه - إن صدر- حتى وقت كتابة هذا التقرير.
خلال الربع الأخير فقط من عام 2022، انتشرت أخبار عن وفاة خمسة سجناء داخل سجن بدر3 الذي استقبل أغلب المحتجزين في سجن "العقرب" سيئ السمعة. ." أغلب حالات الوفيات نتجت وفق التقارير عن أسباب تتعلق بالرعاية الطبية أو لاستجابة الضعيفة أو المتأخرة للأزمات الصحية الطارئة.. كما أنه على مدار عامي 2023 و2024، انتشرت أخبار ورسائل مسربة ومُجهلة منسوبة لمحتجزين في مجمع بدر الأمني تفيد بوقوع إضرابات وحتى محاولات انتحار احتجاجًا على أوضاع احتجازهم، أو بسبب وجودهم في السجن من الأصل، إذ يحتجز بالسجن أفراد طال حبسهم احتياطيًا لسنوات دون إدانة أو محاكمة، بينما لا تتعاطى وزارة الداخلية مع هذه الأخبار سوى بإنكارها، دون الإعلان عن تحقيق واحد في أي من هذه "المزاعم".
ينقسم هذا التقرير إلى أربعة أجزاء رئيسية، أولها يتتبع عملية نقل المحتجزين من سجون مختلفة إلى مجمع بدر الأمني، للوقوف على إذا كانت وزارة الداخلية ممثلة في مصلحة السجون قد استعدت إداريًا لهذه العملية الضخمة وتأثير عملية النقل على حقوق السجناء وذويهم، إلى جانب الوقوف على مدى جاهزية السجون الجديدة نفسها لاستقبال المحتجزين، وصلاحيتها للمعيشة بما يتفق مع ما ورد في التشريعات المصرية والاتفاقيات الدولية. ويتعرض الجزء الثاني من التقرير للبنية التحتية للسجن، وشكل الزنازين وتقسيمها استنادًا لما ورد للمبادرة المصرية من شهادات، ومقارنتها بما تعرضه وزارة الداخلية في أفلامها الترويجية عن "مراكز الإصلاح والتأهيل الجديدة". ويحاول الجزء الثالث من التقرير تقييم الأوضاع المعيشية للمحتجزين وممارسة حقوقهم الدستورية والقانونية فيما يخص التريض والمأكل وإتاحة فرص التعلم والاطلاع والحصول على الرعاية الصحية المناسبة، والتواصل مع العالم الخارجي من خلال إتاحة الزيارة والمراسلات بين المحتجزين وذويهم، إلى جانب تأثير موقع السجن النائي على أهالي المحتجزين وتأثيره على قدرتهم على التواصل مع ذويهم في ظل غياب شبكة مواصلات، وتقدير التكلفة المادية التي يتحملونها للوصول. وأخيرًا يحاول الجزء الرابع من التقرير فهم السياق الذي انتشرت فيه الأخبار عن شروع أعداد من المحتجزين في الإضراب أو الانتحار، ومتابعة الطريقة التي اختارتها الجهات المختصة في التعاطي مع مثل هذه الادعاءات.