نحو حوكمة رشيدة لإدارة أزمة كوفيد ــ19

8 June 2020

لقد تسببت جائحة فيروس كورونا المستجد فى تحديات واسعة النطاق فى جميع أنحاء العالم. لم نشهد جائحة بهذا الحجم منذ الإنفلونزا الإسبانية التى كانت قبل قرن تقريبا. إن الطبيعة المترابطة لمجتمعاتنا واقتصادنا المعولم، والانتشار المستمر للمعلومات فى العديد من المنصات الإعلامية، سرعان ما حولت حدثًا طارئا يخص الصحة العامة إلى أزمة سياسية واقتصادية ونفسية واجتماعية عالمية ذات أبعاد غير مسبوقة.
وباعتبارها أزمة عابرة للحدود، تمثل جائحة فيروس كورونا المستجد تحديًا كبيرًا للتنفيذيين، الذين يُتوقع منهم أداء وظائف رئيسية مثل اتخاذ إجراءات حاسمة، والتعامل مع كميات هائلة من البيانات، واتخاذ قرارات حاسمة، والتنسيق مع أصحاب المصلحة. هذه الأنشطة الإدارية تمثل تحديا جديدا خاصة فى السياق الحالى فى ظل وباء عالمى.
الاستجابة فى الوقت المناسب لأى أزمة هى الأساس فى التعامل مع الوباء، فهى الفاصل بين احتواء الأزمة والسماح لها بالامتداد وتجاوز قدرة المؤسسات الإدارية على العمل بفعالية. قد تحدث أخطاء غير مقصودة، ولاحتواء هذه الأخطاء تتطلب درجة من سرعة الاستجابة تتجاوز قدرة حتى البيروقراطيات الأكثر مهارة، حيث تصبح القواعد التى تنطبق على العمليات الروتينية غير مناسبة فى زمن الوباء.
لا توجد إجابات سهلة. وستمر فترة من الوقت قبل أن نتمكن من التقييم الشامل والمقارنة الشاملة لاستراتيجيات إدارة الأزمات فى كل دولة. ومع ذلك، فإن حوكمة القطاع الصحى، حوكمة رشيدة، أداة لفض الاشتباكات بين أطراف المنظومة، ومشاركة فعالة لجميع الأطراف.
وسنقدم اقتراحا قد يكون جاء وقته للمساهمة فى حوكمة إدارة أزمة جائحة كورونا المستجد وهو إنشاء مجلس أعلى للصحة.
***
فى عام 2014 تم تقديم مقترح للحكومة من منظمات المجتمع المدنى لإعادة تشكيل المجلس اﻷعلى للصحة، تطويرًا وتفعيلًا للمجلس اﻷعلى للخدمات الصحية المنشأ بقرار جمهورى رقم 61 لسنة 1966 وتعديلاته برقم 81 لسنة 1978 ولسنة 1993. جاء هذا المقترح بناء على الحاجة الملحة لإصلاح المنظومة الصحية بتأسيس كيان فعال ومستدام لحوكمة القطاع الصحى فى البلاد، ويقوم ببلورة سياسات إستراتيجية تهدف إلى تحقيق العدالة والكفاءة فى الرعاية الصحية لكل المصريين دون تمييز، ويحقق مشاركة المواطنين فى وضع السياسات الصحية ومراقبة تنفيذها بشفافية ونزاهة.
يأتى هذا الاقتراح القديم من عام 2014 تحديثًا للمجلس الحالى (بمقتضى القرار الجمهورى، رقم 61 لسنة 1966 والذى تم تعديله بقرار جمهورى آخر، هو القرار رقم 81 لسنة 1978) والذى أصبح كيانًا هامشيًّا وبلا فائدة أو صلاحيات مؤثرة، كما أثبتت التجربة العملية أن المجلس الحالى، الذى اقتصرت عضويته على ممثلى الجهات التنفيذية للحكومة واقتصرت مهامه على التنسيق بينها، لم يقم بدوره ولم يحقق أى أهداف، كما أن تبعيته لوزارة الصحة جعلت دوره يقتصر على تقديم بعض التوصيات غير الملزمة للوزارة، بالإضافة إلى كونه خاضعًا لتوجهاتها. وفى اقتراحها ترى المبادرة المصرية أن يصبح المجلس كيانًا اعتباريًّا مستقلًا يتم انتخاب رئيسه من اﻷعضاء غير العاملين بالجهاز التنفيذى للدولة، وأن يتحول إلى بيت للخبرة ولتمثيل كل المعنيين بالسياسات الصحية وأن يكون دوره الرئيسى وضع السياسات الخاصة بالقطاع الصحى ككل، والإستراتيجيات لكل خمس أو عشر سنوات، على أن يضم المجلس مجموعة متنوعة من الشخصيات بصفاتهم المهنية، يمثلون مختلف القطاعات المعنية والفاعلة، والمنتفعين من الخدمات الصحية فى مصر.
قدم هذا المقترح فى نسخته الأخيرة والمذكرة التفسيرية له بعد 22 مراجعة من وزارة الصحة والسكان ومؤسسات المجتمع المدنى والنقابات والخبراء فى حوكمة المنظومة الصحية وغيرهم. تم تقديمها لمجلس الوزراء فى ذلك الوقت دون اتخاذ قرار بشأنه.
فى نفس السياق، فى أول شهر مايو من العام الحالى وجه رئيس مجلس الوزراء بإنشاء مجلس أعلى للصحة، وهى خطوة جيدة لأنه لا بديل عن حوكمة المنظومة الصحية، فلا نعلم حتى الآن متى ستنتهى هذه الجائحة، ولذلك فإن إنشاء مجلس أعلى للصحة يعد إحدى الآليات المهمة لحوكمة إدارة الأزمة.
***
تجدر الإشارة إلى أهمية التفرقة بين مقترح (المجلس الأعلى للصحة) ومقترح (المجلس الطبى العام المصرى)، والذى طالما نادى به كثيرون، فالمجلس الطبى العام المصرى له دور مكمل ومختلف عن المجلس الأعلى للصحة، فهو مشابه للمجلس الطبى البريطانى العام فى المملكة المتحدة. يهدف هذا المجلس الطبى إلى تحسين التعليم الطبى والخدمات الطبية، وتوفير إرشادات ومعايير واضحة لتقديمها، ويحدد المعايير القياسية لمهنة الطب والسلوك المهنى المناسب للأطباء، ويضع معايير التعليم الطبى والتدريب التخصصى، يقوم بإصدار تراخيص مزاولة مهنة الطب.
يعتبر إنشاء مجلس أعلى للصحة فى الوقت الحالى إحدى آليات الحوكمة الرشيدة فى إدارة أزمة التعامل مع جائحة كوفيد ــ 19. فعلى سبيل المثال، ما شهدناه جميعا فى الفترة الماضية من الاشتباك الدائم بين وزارة الصحة ونقابة الأطباء مثال للأزمات التى كان من الممكن تفاديها فى حالة وجود مجلس أعلى للصحة.
ولا جدال فى تضامننا الكامل مع مطالب الأطباء فى أن يعامل شهداء مكافحة فيروس كورونا المستجد «كوفيد ــ 19» من الأطباء كشهداء الشرطة والجيش، واعتباره شهيد حرب، فى مخصصاته المعنوية والمادية، فهو فى مواجهة وباء، والوباء حرب، بالإضافة إلى وضع شبكة حماية له من العدوى فى مواجهة الوباء، على أن تشمل إجراءات الحماية كل الطواقم الطبية، الممرضات، والعمال، وفنى التحاليل، والصيادلة، والعاملين فى الطب الوقائى، فالجميع يواجهون مصيرا مشتركا، كما أن معظم الطواقم الطبية العاملة فى المستشفيات والقطاعات الصحية الحكومية، دخلهم ضعيف، ومستوياتهم الاقتصادية ضعيفة. بالإضافة إلى إجراء مسح كورونا «كوفيد19» لكل الطواقم الطبية وبشكل دورى، ولنعتبره كسلاح، يواجه به الأطباء وباء كورونا.
فى الخلاصة، إن حوكمة المنظومة الصحية للتعامل مع جائحة كورونا المستجد تعنى أطر مشاركة مجتمعية واسعة، عن طريق إنشاء مجلس أعلى للصحة، فضلا عن مجلس طبى عام لأخلاقيات المهنة وتطوريها. ولقد كان لقاء رئيس الوزراء مع نقيب الأطباء خطوة جيدة وعاقلة فى احتواء الأزمة الأخيرة بين نقابة الأطباء ووزارة الصحة. ولكن، يجب التنويه إلى أن هذه اللقاءات، على أهميتها، لن تكون حلا دائما ومستداما للأزمات التى قد نواجهها فى التعامل مع الأزمة، فقط مسكن وقتى، ولكن الحل فى وضع أطر للحوكمة الدائمة والمساءلة.

نشر هذا المقال علي موقع  الشروق بتاريخ ١ يونيو ٢٠٢٠