حقائق وتحديات التشغيل التجريبى للتأمين الصحى الشامل فى بورسعيد

23 سبتمبر 2019

جاء قانون التأمين الصحى الشامل نتاج عمل مستمر اشترك فيه خبراء وحكوميون ومسئولون من المجتمع المدنى (لقرابة سبع سنوات متواصلة) وعقدت العديد من جلسات الاستماع بهدف تصميم نظام تأمينى شامل يحقق الإتاحة والتوافر وإمكانية الوصول والمقبولية والجودة فى الخدمات والحماية الصحية المقدمة بدون تمييز وبغض النظر عن مستوى الدخل. وأقر القانون فى سبتمبر 2017 من البرلمان وصدق عليه رئيس الجمهورية فى يناير 2018. ثم شرعت الجهات التنفيذية المختلفة فى التجهيز لتطبيق هذه المنظومة وفقا لخطتها التى تشمل ست مراحل، بالبدء فى محافظة بورسعيد يعقبها بقية محافظات القناة وسيناء والأقصر وأسوان فى المرحلة الأولى منه.

وقد بدأت الحكومة بالفعل فى جمع الموارد المالية المختلفة التى ينص عليها القانون لهذا الغرض، كما قامت جهات دولية متنوعة بتقديم الدعم الفنى والتقنى لمساعدة عملية الإصلاح اللازمة للشروع فى تطبيق هذا القانون فى محافظة بورسعيد أولا (لتحقيق تغطية صحية شاملة لقرابة مليون مواطن من سكان محافظة بورسعيد).

وفى هذا السياق، بدأ ما يسمى بتشغيل تجريبى لتنفيذ القانون بداية من شهر يوليو الماضى ولمدة شهرين. ورغم استحالة إجراء عملية تقييم علمية كاملة الآن لما يحدث جراء إجراءات التنفيذ الفعلية لمنظومة جديدة، تعد هى الأكثر شمولا وصعوبة فى تنفيذها لما تشمله من إعادة هيكلة وبناء جديد لها، بتأسيس ثلاث كيانات مستقلة لها شخصية اعتبارية جديدة لتمويل وإدارة الخدمات، ولمراقبة الخدمة ووضع معايير جودتها واعتمادها، على الرغم من ذلك كانت ردود فعل بدء التشغيل التجريبى عند الخبراء وعند المواطنين تستدعى رصد حالة مبدئية للموقف العام لما يجرى على الأرض فى بورسعيد تحقيقا لمسئولية تفعيل آليات المشاركة والمتابعة لأهم تغيير فى تاريخنا الصحى الحديث منذ ما لا يقل عن نصف قرن من الزمن.

فى البداية ثمة حقائق أساسية لابد من الإشارة إليها:

أولا: من الحقائق الأساسية أن القانون الشامل للتأمين الصحى والانتهاء منه يعد قصة نجاح فى حد ذاتها أقرت بها العديد من الهيئات الدولية مثل منظمة الصحة العالمية.
ثانيا: هناك إرادة سياسية عالية المستوى كانت وراء الانتهاء منه والبدء فى تنفيذه وتوفير الموارد المالية اللازمة له فى موازنة الدولة 2019 /2020 نحو 23 مليار جنيه للمرحلة الأولى من القانون (راجع موازنة 2019/ 2020 موازنة البرامج)
ثالثا: القانون يهدف كما هو معلن لتحقيق التغطية الصحية الشاملة لكل المصريين دون تمييز وفقا للدستور وكما ورد فى خطة الدولة للتنمية المستدامة 20/ 30 فى محور الصحة.
رابعا: إن مرحلة التشغيل التجريبى بدأت بالفعل فى بورسعيد بشكل واعد حتى الآن حيث تم الانتهاء من تجهيز 7 مستشفيات تخصصية وعامة، و22 وحدة للرعاية الصحية الأساسية، وتم تسجيل قرابة 52% من سكان المحافظة وتطبيق نظام الإحالة من مستوى الرعاية الأساسية للمستوى الثانى والثالث للخدمة بنسب مقبولة تتدرج ما بين 100% و50% فى بعضها.

وأشارت وحدة إدارة المشروع فى وزارة الصحة أن التطوير شمل توفير قرابة 644 سرير إقامة بالمستشفيات و144 سرير رعاية مركزة و110 ماكينة غسيل كلوى (بمعدل سرير لكل ألف مواطن كمستهدف نهائى).
هذه حقائق على الأرض لا يمكن إغفالها تكلفت قرابة مليار و200 مليون جنيه، ومع ذلك فالواقع يشير إلى وجود عدة تحديات بارزة تحتاج لكثير من الجهد والعمل والتشاركية المنسقة وتحتاج إدارة مبادرة وواعية وخطط مدروسة لسد الثغرات والفجوات القائمة.

أولا: ما زالت تحتاج المنظومة إلى إضافة وحدات رعاية أساسية تصل إلى قرابة 9 وحدات جارٍ العمل على الانتهاء منها وقرابة 4 مستشفيات أخرى لم تنتهِ عمليات تطويرها.
ثانيا: فى محور ميكنة المنظومة والتحول الرقمى القومى الذى يشمل إدارة بيانات المرضى وتسجيلهم بالكامل (بعض ذلك يتم الآن فى نظم شيدت على عجل مؤقتا لذلك) وإدارة المطالبات المالية لمقدمى الخدمة وفقا لعقود مؤقتة ولعقود نهائية.
ثالثا: فى محور الموارد البشرية ويشمل استكمال العمالة اللازمة وخاصة فى مستوى أطباء الأسرة (مليون نسمة قد يحتاجون إلى قرابة 100 طبيب أسرة إذا افترضنا تخصيص طبيب لكل 10 آلاف مواطن) إلى جانب التمريض والفرق المساعدة واختبارهم وتدريبهم.
رابعا: فى محور الإعلام والتوعية يشمل هذا ضرورة عمل سلسلة من الندوات وورش العمل والمواد الاسترشادية والمطبوعات للتوعية عن النظام إلى جانب توفير جميع المستلزمات الورقية والحاسبات الإلكترونية والمستلزمات الدوائية والأجهزة... إلخ.

وفى الخلاصة نشير لأهمية نجاح المشروع وتقديمه كنموذج للاستمرار فنثمن ما حدث من المجهودات ولكننا نشير إلى التحديات أيضا لأهميتها، ونشير إلى أن نقاط الضعف فى هذه المرحلة، فلا يجب أن تؤخذ باستخفاف ففقدان الثقة فى البداية من جانب المواطن أو مقدمى الخدمة يعد من التهديدات الخطيرة التى لا يجب السماح بها تحت أى ظروف كما أن عمليات تحديد الفئات غير القادرة وفق معايير محددة لا تتسم بالعمومية وعدم الوضوح تعد أيضا من التهديدات الخاصة.

إن إيمان الجهات التنفيذية بدور المشاركة المجتمعية والمساءلة ضمان أكيد لاستدامة تلك المجهودات وتصويب اتجاهاتها فى الوقت المناسب.
إن متخذى القرار من التنفيذيين والسياسيين يجب أن يسعوا بجدية للوصول إلى دعم المواطنين من خلال تغييرات ملموسة، فالخطط والبرامج الإصلاحية الكبرى مثل نظام التأمين الصحى الشامل على قدر من الأهمية بمكان فى تحقيق نقلة مستدامة للتنمية رغم أنها عمليات تتسم بمداها البعيد وقد تعد أقل جاذبية من غيرها من المبادرات السريعة الرأسية (التى تميزت بما يسمى بالنجاحات السريعة) إلا أنها هى الملجأ الحقيقى لحماية الدولة والمجتمع من كل المخاطر التى تهددها فى مواجهة الكثير من ثغرات وآثار بعض الإجراءات الاقتصادية الصعبة التى يتعرض لها ويعانى منها المواطنين، ما يجعل مشروع التأمين الصحى الشامل أمل كبير فى العدالة والإنصاف يستحق المجهود الذى يبذل لإنجاحه.

تم نشر هذا المقال عبر موقع جريدة الشروق الإلكتروني في الإثنين 16 سبتمبر 2019