تداعيات نهاية العام فى ملف الصحة

15 يناير 2019

أصبح ملف الصحة فى الأعوام الأخيرة دائما على أجندة المجتمع والدولة وبشكل جدلى فى أغلب الأحوال مما يعكس نجاحا ما فى حركة ونشاط جميع الأطراف المتداخلة والمتفاعلة فى جوانب الملف المختلفة بما فيها بالطبع الإعلام المرئى والمقروء وهذا فى حد ذاته مؤشر جيد سوف يراكم كما نتصور فى النهاية إلى تحقيق نتائج إيجابية.
وفى هذا السياق ومع نهاية عام 2018 نرصد بعض الملاحظات الضرورية لتحديد طبيعة التحديات التى نواجهها فى المنظومة الصحية وتداعياتها المختلفة.
أولا: نحن نعرف من التجربة الحالية أن عملية إصلاح القطاع الصحى عملية مركبة وصعبة فالمؤسسات القديمة القائمة وجماعات المصالح لديها الكثير من الدوافع والأسباب لعرقلة التغييرات الإصلاحية الكبيرة، وهذا يعنى أن التغييرات الكبيرة مثل إعادة بناء نظام تأمين صحى شامل جديد هو أمر حيوى وغير متكرر، ومن ثم يجب أن يكون القائمون على عملية الإصلاح مستعدين للإمساك بعزم بالفرصة المتاحة الآن (تأمين صحى شامل وحملة القضاء على فيروس سى) وﻻ يفرطوا فيها بسهولة رغم حجم التحديات القائمة.
ثانيا: نقص القوى البشرية الطبية والصحية اللازمة للتنفيذ والذى تتضح ملامحه فى عجز أعداد الأطباء والتمريض فى تخصصات معينة فالتقديرات المتاحة تشير إلى أن عدد الأطباء الذين يعملون فى القطاع الصحى الحكومــــى لا يزيدون عن خمسين ألف طبيب فى جميع التخصصات فى أحسن الأحوال فى حين أن عدد الذين يعملون خارج مصر سواء فى الدول العربية أو الأوروبية يزيدون عن سبعين ألف طبيب فى جميع التخصصات خاصة الحيوى منها، وهنا طرحت بعض اﻻقتراحات كحلول قصيرة الأمد، فأسباب هجرة الأطباء أصبحت معروفة للكافة مثل تدنى الأجور وسوء مناخ العمل المحيط بهم ولذا كانت اقتراحات الحل تدور حول هذا المحور وهذا ما أنقله مباشرة فى محاولة لطرح المشكلة مباشرة على وسائل التواصل اﻻجتماعى كنوع من اﻻستقصاء السريع العشوائى وهذا نقل مباشر بلغة أصحابه.
(يعاملونا زى زمايلنا أطباء الجيش، أمان اجتماعى وحماية من اﻻعتداءات وأمان مادى بمرتب يخلينى أفكر أخدم المريض مش يخلينى أفكر هجيب أكل لوﻻدى ازاى، هتلاقينا كلنا فى خدمة المريض والبلد كلها).
(كيف نجعل الطب مهنة مرغوبة؟)
(ﻻزم يرجع الحكيم باشا)
(هل تعرف وزارة الصحة عدد أطباء التخدير المطلوبين خلال العشر سنوات القادمة)
(الحل زيادة المرتبات)
(كيف تسأل وأنت الخبير)
(يطرح أحدهم حلا يبدو موضوعيا لتحسين مرتبات القطاع الطبى كاملا، إتاحة فرص لمساعدى الأطباء، استخدام تكنولوجيا المعلومات فى زيادة اﻻستفادة من مقدمى الرعاية الصحية، اﻻهتمام بنموذج طب الأسرة، زيادة أعداد كليات الطب والتمريض وتقليص كليات الصيدلة، محاولة استعادة من هم فى الخارج بخلق أجواء مشجعة على ذلك ماليا ومن حيث مناخ العمل)،
وفى رأى أحد خبراء الجودة (الحل كما ذكرت من قبل التحول من الوظيفة إلى التعاقد اللامركزى لتوفير اﻻحتياجات مع ضمان التفرع ومن يرغب فى العمل الخاص يتعاقد جزء من الوقت والمرتبات تناسب ظروف المعيشة).
وخبير آخر (حتما سنلجأ للتخطيط السليم ولكن فى توقيت واضح أنه متأخر فى المسار القصير هناك التدريب التحويلى فى التخصصات الناقصة والحرجة مثل العنايات المركزة المختلفة).
(وبدون بيانات حقيقية أو قريبة من الواقع يبقى بنضيع الوقت).
(هناك عدد 200 ألف صيدلى فى السوق وهى زيادة غير طبيعية ويمكن حل ذلك عن طريق التنسيق فى الثانوية العامة وتقوم الحكومة بفتح مزيد من كليات الطب الجديدة خاصة فى الصعيد وتزيد الأعداد ويقوموا بتطوير التعليم الطبى).
(رأيى هو ترك الأمور كما هى لتستفحل وليدرك الجميع وعلى رأسهم الشعب أصحاب المصلحة الحقيقيين أهمية إصلاح المنظمة الصحية من الأساس وليس عن طريق الترقيع).
(ذهبت السكرة وجاءت الفكرة)
(الأطباء المصريون ثروة قومية وﻻ يصح أن نفرط فيهم)
وهكذا، تراوحت الحلول بين الممكن والمستحيل والعفوى والمدروس ولكنها فى الإجمال تشير إلى أننا نستطيع إذا كانت هناك إرادة إصلاح حقيقية وموارد حقيقية.
ثالثا: ﻻحظنا فى الفترة الأخيرة كثرة عدد المؤتمرات والندوات المعنية بملف الصحة عموما إلى جانب الورش التدريبية وهذا فى مجمله إيجابيا وإن كان متكررا بلا فائدة على مدى العشرية الأخيرة فما السبب الذى يمنع اﻻستفادة من مثل هذه الأنشطة المتكررة والتى ﻻ تحول توصيتها إلى خطط عملية قابلة للتنفيذ؟ ولماذا تعفى النخب التكنوقراطية والبيروقراطية نفسها من المسئولية بمجرد تنظيم مؤتمرات وندوات دون متابعة لإمكانية تنفيذ ما طرحت من حلول وكان دورها هو مجرد التنظير والتفكير وتكتفى بذلك؟
رابعا: يجد البعض من الخبراء أن النجاح غير المسبوق الذى يتحقق كل يوم فى مبادرة 100 مليون صحة سيكون نقطة فارقة فى التاريخ الطبى المصرى سيتوقف عندها المحللون والباحثون فى مجال المسوحات الطبية كثيرا والدروس المستفادة من التجربة المصرية الرائدة ستعيد صياغة فصول فى علم الصحة العامة والسياسات الصحية (نصف مليون بيطمنوا كل يوم) وبالطبع نحن نتمنى ذلك ولكن هل تقييم التجربة برمتها يحتاج إلى وقت وعمليات تحليل دقيق لمدى الإفادة من الحملة ولمدى تناسب الجهد والتكلفة مع النتائج؟
خامسا: يحكى أحدهم هذه القصة والعهدة عليه، طبيب تخدير مسجل فى زمالة التخدير قام بتخدير 30 حالة بمستشفى كبير تابع لإحدى هيئات وزارة الصحة بالقاهرة الكبرى وأحس بالإرهاق الشديد وعدم التركيز فتوقف عن تخدير آخرين فلجأ مدير المستشفى إلى استدعاء الشرطة له لإجباره كى يعمل فوق طاقته ومقدرته فتقدم باستقالته.
هذه بعض التداعيات المترابطة فى هذا الملف الساخن مع نهاية عام وبداية عام جديد لعلنا نكتشف بعض الجوانب التى تحتاج إلى مزيد من التداخل والتدقيق والتأثير الإيجابى فى عملية إصلاح النظام شديدة الصعوبة والتى لن تجد لها حلولا ناجزة إلا بمشاركة مجتمعية حقيقية وكاملة من جميع الأطراف الفاعلة فى الحرص على مستقبل هذا الوطن وعام جديد أفضل.

نشر هذا المقال في موقع  الشروق بتاريخ 24 ديسمبر 2018