البعض ليسوا على قوائم الانتظار فى المستشفيات

5 ديسمبر 2018

برزت فى الآونة الأخيرة إشكالية ضرورة الانتهاء من قوائم انتظار المرضى الذين يحتاجون إلى تدخلات طبية وجراحية ملحة قد تكون عاجلة أو طارئة أو مهددة للحياة وأصبحت من الأهداف الآنية لوزارة الصحة وباقى قطاعات الحكومة المعنية بالخدمات الصحية.
حتى احتلت الاهتمام الأساسى من العمل الصحى إلى جانب خطة الدولة فى المسح السكانى لمرضى الفيروسات الكبدية وأمراض ارتفاع ضغط الدم ومضاعفاته والسكر ومضاعفاته إلى آخره من الأعباء المرضية للمواطنين فى مصر.
وصرحت السيدة وزيرة الصحة أخيرا بأنها انتهت من إجراء قرابة 54000 ألف عملية جراحية من إجمالى 77000 حالة كانت على قوائم الانتظار وهو ما يمثل إنجازا كبيرا قدرته بنسبة 300% من حيث التوقيت.
والواقع أنه على الرغم من هذا الإنجاز المشكور فإن المنظومة الصحية إجمالا أشمل بكثير من مجرد اختصارها فى غرف العمليات الجراحية، فالجراحة فى العلوم الصحية والطبية هى آخر نقطة فى طريق طويل من الرعاية الصحية، أول هذا الطريق يوجد فى مراكز الرعاية الأساسية والاكتشاف المبكر للمرض والوقاية منه وهذه تعد مهمة وزارة الصحة الأولى، هذا من ناحية المفاهيم المبدئية أما من ناحية ما يحدث على أرض الواقع الصلب فلدى نظامنا الصحى مشكلة حقيقية فى أعداد المرضى من معدومى ومحدودى الدخل الذين تفاقمت أحوالهم الصحية بسبب تردى ظروفهم الاجتماعية والاقتصادية وبسبب عجز النظام الصحى العام للدولة عن توفير احتياجاتهم العلاجية بدون صعوبات مالية يتحملونها وهم غير قادرين مما جعل أعدادهم على قوائم الانتظار أمام المستشفيات والمعاهد الجامعية والعامة تتزايد وتصل إلى نقطة حرجة للاحتياج أمام الدولة ما جعلها تركز على هذا الهدف الإجرائى العادل لتسكين ألام المواطنين ومشكلاتهم الطبية.

ولكن هل هذا الإنجاز على أهميته سوف يحل المشكلة من جذورها ويمنع تراكم قوائم انتظار جديدة لمرضى جدد؟ وهل تراكم هذه الأعداد للمرضى على قوائم الانتظار يعانى منه جميع المواطنين فى مصر أم أن هناك شريحة من القادرين ليسوا على أى قوائم انتظار فالخدمة متوافرة ومتاحة لهم فى أى وقت داخل وخارج البلاد ماداموا يدفعون ثمنها وقتما يشاءون مما يعكس الخلل الأساسى فى المنظومة الصحية الذى يعبر عنه فى عدم المساواة والتمييز للبعض فى حين يعانى الغالبية من المرضى غير القادرين من الانتظار طويلا على قوائم الانتظار.
****
ويبرز فى هذا السياق سؤالا آخر مهما، وهو هل من الممكن الانتهاء فعلا وتماما من وجود قوائم الانتظار خاصة فى الجراحات الكبيرة والمعقدة؟ والإجابة بالطبع هى النفى فحتى فى الدول المتقدمة كالسويد وبريطانيا مثلا هناك قوائم انتظار لحالات بعينها قد تحتاج نقل وزرع عضو بشرى مناسب وهو غير متوافر أو عمليات مركبة ومعقدة لا يجريها إلا عدد محدود من كبار الاستشاريين (كعمليات القلب المعقدة مثلا) وهم فى طاقاتهم على العمل تظل محدودة بشكل عام مما يضع أمامهم قوائم للانتظار، ذلك إلى جانب حزمة أخرى لتنامى الظاهرة ترجع فيها الأسباب إلى توفر الموارد المالية اللازمة والملحوظ فى بلدان العالم النامى مثل مصر ومن سنوات طويلة تدنى مخصصات الصحة فى الموازنات العامة بها مما يضع المستشفيات العامة والعاملين فيها فى حالة حرجة من نقص المستلزمات والأدوية والقوى البشرية اللازمة لأداء العمل بجودة للفئات غير القادرة من المواطنين رواد هذه المستشفيات.
إلى جانب الأسباب الفنية لنقص العمالة المدربة بشكل حاد فى القطاع الصحى المملوك للدولة قياسا للمتوافر فى القطاع الخاص الذى يطلب فى أغلب الأحوال أجورا مبالغا فيها لمن يقدر على التكلفة ليوفر الخدمة وقتما يشاء المستهلك من وجهة نظره وفق قواعد السوق للعرض والطلب.
***
ومن ذلك نستطيع القول بوضوح أن إشكالية قوائم الانتظار لن تنتهى إذا لم يتم إصلاح المنظومة الطبية والصحية إصلاحا شاملا وجذريا لتأكيد مبادئ المساواة وعدم التمييز والإنصاف أساسه بناء نظام التأمين الصحى الشامل بإعادة هيكلة الأعباء المالية والمرضية وإعادة المشاركة فى توزيعها بين الأغنياء والفقراء بما يحقق الإنصاف والمساواة وعدم التمييز ويسمح لجميع المواطنين بالعلاج بنفس الجودة ودون تحمل أعباء مالية لا يقدرون عليها ويضمن هذا النظام الجديد حزمة مدفوعات مالية لمقدمى الخدمة فى القطاع الحكومى كافية ومرضية تجعلهم محفزين للأداء الجيد دون البحث عن عمل إضافى فى القطاعات الخاصة من الخدمة وعندها لن تنتهى أيضا قوائم الانتظار لكنها ستنخفض إلى الحد الأدنى المقبول فى أى نظام صحى جيد لأسباب فنية ﻻ غير وذلك ما يستلزم وجود خطة شاملة لتنفيذ عمليات الإصلاح الأساسية والتأمين الصحى الشامل فليس لدينا حل أخر سوى إعادة بناء النظام جديا وزيادة الإنفاق العام على الرعاية الصحية إلى الحدود التى تسمح للمستشفيات الحالية العامة بأداء دورها لمحدودى الدخل وللحد من قوائم الانتظار وليس بالاعتماد على خيرية البعض أو تبرعاتهم غير المستدامة أو حتى القروض والمنح الخارجية التى قد تساهم فى أغلب الأحوال فى بناء القدرات الفنية وجزء من البنية التحتية لمراكز الرعاية الأساسية والمستشفيات ولفترة محدودة ولكنها لن تجدى على المدى الطويل فى بناء صندوق قوى ماليا لتمويل وتوزيع أعباء المرض دون تمييز لجميع المواطنين يكون قادرا على تجميع وتحصيل موارد مالية من مصادر ثلاثة حددها القانون الأخير للتأمين من اشتراكات القادرين على إجمالى دخولهم بنسب محددة تحصل دوريا ورسوم ومساهمات تفرض على بعض المواد الضارة بالصحة والصناعات المختلفة الملوثة ثم من خزانة الدولة لتمويل الخدمة بشكل مستدام للفئات غير القادرة فى المجتمع والتى تصل نسبها كما أعلن إلى قرابة 35% من السكان قد تتغير من عام إلى آخر مما يحتم وضع أسس حقيقية لإصلاح حقيقى يحد من قوائم الانتظار وإلا سنظل ندور فى دوائر مسكنة تسمى قوائم الانتظار.

نشر هذا المقال في جريدة الشروق     بتاريخ 1 ديسمبر 2018