نظرة أخيرة فى هيكل تمويل نظام التأمين الصحى الجديد

19 ديسمبر 2017

قارب مشروع التأمين الصحى الشامل الذى قدم إلى البرلمان مراحله الأخيرة عقب الموافقة عليه فى لجان الصحة والموازنة والشئون التشريعية مصحوبا بتقرير لتقديمه إلى الجلسة العامة تمهيدا لمناقشته ربما للمرة الأخيرة، وذلك فى رحلة طويلة من الجدل والحوار والصراع بين مصالح متضاربة تسعى كل منها لضمان عدم المساس بما اكتسبت بغض النظر عن انعكاسات ذلك على المبادئ الكلية للحق فى الصحة والمصلحة العامة والعدالة الاجتماعية وقد يكون هذا من طبيعة الأمور فى كل المجتمعات البشرية.

وذلك ما يذكرنى دائما بتقرير صحفى كبير كنت اطلعت عليه منذ عشر سنوات حول الصراعات والتحالفات والنقاشات التفصيلية وآليات الضغط الذى مارسها الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكية (باراك أوباما)، وفريق عمله حينما كان يسعى لتمرير قانون التأمين الصحى الجديد فى أمريكا؛ لتوسيع مظلة الحماية التأمينية هناك والحد من هيمنة شركات التأمين الخاصة فى سوق الخدمات الطبية والصحية. وقد كان تقريرا شديد الإثارة والأهمية حول تشكيل لوبيات مع أو ضد القانون داخل الأحزاب وخارجها ولكنه نجح ببراعة فى إقرار ما عرف وقتها بـ(أوباما كير)؛ لتوسيع مظلة التغطية التأمينية كما ورد فى بنود برنامجه الديمقراطى للانتخابات.

يذكرنى هذا التقرير بما يجرى حول قانون التأمين الصحى الشامل الجديد فى مصر الآن، خاصة ما يتعلق بصراعات المصالح أو بالدعم السياسى الذى يحظى به القانون ومحاولات بعض مجموعات المصالح للضغط فى اتجاه تخفيض الأعباء المالية التى يلزمهم بها القانون خاصته فى جانب ما يسمى برسوم المشاركة المجتمعية، إلى جانب المجموعات المهنية الطبية التى تتخوف من تجاهل دورها ومصالحها القائمة والتى أصبحت جزءا من طبيعة عملها وحجم أرباحها.

****

فى هذا السياق نرى من المهم التعرض لهيكل تمويل النظام الجديد إجمالا بمحاوره الثلاثة الأساسية وهو الذى استند إلى دراسة اكتوارية لم تكن المرة الأولى التى تجريها شركة عالمية (إن هيويت) لتلك الدراسات التى لم تكن تحظى بالاهتمام فى نظم التأمين السابقة التى بدأت فى الستينيات، وكانت تصدر من خلال قوانين لتوسيع مظلة التأمين لأسباب سياسية بحتة مثل قانون التأمين الصحى للفلاحين وقانون التأمين الصحى للمرأة المعيلة دون الاستناد لأى حسابات اكتوارية مما جعلها مجرد أوراق طيبة النية لا تضمن استدامة الموارد اللازمة لتحقيق أهدافها.
فما الذى اختلف فى القانون الجديد؟

يعتمد النظام الجديد فى تمويله وضمان استدامته على ثلاثة محاور تمويلية أساسية:

المحور الأول: يشمل اشتراكات الأسر المنخرطة تحت مظلته بنسب اشتراكات تعتمد على الدخل الكلى لرب الأسرة له ولأولاده ولزوجته إذا كانت لا تعمل وإذا كانت تعمل تدفع عن نفسها نسبه 1%، ويقدر الاشتراك إجمالا للأسرة بمتوسط يصل إلى 6% من دخله الكلى و4% من صاحب العمل سواء كانت الدولة أو القطاع الخاص الذى يعمل فيه، أى بإجمالى قرابة نسبه 10% إذا كان لديه طفلان وزوجة لا تعمل. وهذا الاشتراك إجمالا للفئات القادرة فى المجتمع التى تعمل فى أطر عمل رسمية محددة أى الدولة، والقطاع الخاص المنظم قد يمثل قرابة ثلث التكلفة الإجمالية للنظام أى نحو 200 مليار جنيه فى حالة التطبيق الكلى للنظام لقرابة 90% من السكان المقيمين تقريبا.

والمحور الثانى: والضرورى لاستدامة المنظومة هو نصيب الخزانة العامة للدولة للفئات غير القادرة فى المجتمع والتى تقدر بنحو من 30% إلى 35% من الأسر، وسوف يصل أيضا لقرابة 200 مليار أخرى، وسيظل إشكالية هذا المحور فى تحديد هذه الفئات تحديدا دقيقا ودوريا وعادلا.

أما المحور الثالث: والأخير والأهم من وجهة نظرى لتحقيق العدالة الاجتماعية والإنصاف؛ هو ما يسمى بالمصادر الأخرى أو التمويل المجتمعى أو الرسوم المخصصة للصحة على حزمة من السلع والخدمات التى لا تمس مصالح الفقراء، لأنها من دلالات التضامن المجتمعى من ناحية وتعبيرا عن المسئولية الاجتماعية من ناحية أخرى خاصة للقطاعات الصناعية والتجارية الخاصة الأغنى فى المجتمع والتى تحقق أرباحا فعلية واستقطاع جزء منها لا يؤدى إلى مزيد من التضخم أو إعاقة الاستثمار.

***

ونشير إليها إجمالا ــ كما ورد فى القانون ــ فى رسوم على السجائر والتبغ ومشتقاته وتراخيص تسيير السيارات وحزمة من تراخيص المستشفيات الخاصة والصيدليات (لاحظ أن رقم الإنفاق الصحى الكلى 70% منه يذهب لهذه القطاعات الطبية التى تعمل بحرية ودون تنظيم أحيانا، وهذا ما يسعى القانون للحد منه عمليا بتأسيس نظام متكامل يخفض هذه النسبة إلى 20%) . إلى جانب رسوم على حزمة الصناعات غير الصديقة للبيئة مثل الإسمنت والحديد والكيماويات والبورسلين والرخام والأسمدة والسليكا والجرانيت والبتروكيماويات بنسبة خمسة فى الألف من الوحدة المباعة بالمتر المكعب أو الطن أو أى وحدة بيع أخرى وأيضا خمسة فى الألف من قيمة مبيعات شركات الأدوية والأغذية وقيمة أعمال شركات المقاولات.. إلخ.

ما يسمى برسوم المساهمة المجتمعية ــ وهى فى مجملها ــ يجب أن تحقق الثلث الأخير فى هيكل التمويل الإجمالى الذى يقدر بـ 600 مليار جنيه منها 200 مليار فى هذا المحور المهم الذى يجب أن يكون من مؤشرات إيمان هذا القطاع الاستثمارى المهم بمفاهيم التضامن والعدالة الاجتماعية خاصته إنها قطاعات تحقق بالفعل هامشا ربحيا جيدا يتحمل أغلبها المواطنون القادرون وليس الفقراء منهم، وذلك ما يعد موقع التحدى الحقيقى الذى سيواجه القانون داخل اللجنة العامة فى البرلمان حيث سيحاول ممثلى هذه القطاعات الحد من هذه النسب أو إلغائها مما يهدد القانون فعليا بالقدرة على الاستدامة.

وهنا من المهم الإشارة مرة أخرى لمبادئ وسمات مشروع القانون الأهم فى تاريخنا الحديث فهو ليس إطار تشريعى للمنظومة بل أداة حاكمة للإصلاح والبناء عبر تأسيس ثلاث هيئات جديدة إلى جانب وزارة الصحة، وهو نظام شامل جغرافيا وسكانيا وحدته الأسرة، إلزامى لضمان عدم تخارج الفئات الأغنى وتوفير استدامة الملاءمة المالية له بالتضامن بين القادرين وخزانة الدولة والمجتمع لصالح الفئات غير القادرة.

وعندما يعتمد على المحاور الثلاثة السابقة فإنه يؤكد على ضرورة التمويل المجتمعى عبر رسوم تفرض على بعض السلع والخدمات دون تعريض الاقتصاد الكلى لمزيد من التضخم أو حرمان الفئات الأفقر من إتاحة الخدمة الصحية فهل يستجيب القادرون؟

وفى النهاية حتى يتحقق التوافق المطلوب حول هيكل تمويل النظام الجديد بمحاوره الثلاثة،
نؤكد أن الأمم الحية قادة وخبراء يجب أن يتحلوا بالمسئولية فيما يتعلق بمستقبل وأهمية السعى لإقرار هذا القانون وتطبيقه بلا وعود وردية أو سعى طائش للمكاسب التى تحقق مصالح جماعات محدودة على حساب المواطنين.

تم نشر هذا المقال عبر بوابة الشروق الإلكترونية بتاريخ 19 ديسمبر 2017