ملاحظات حول أزمة الدواء الأخيرة

31 مايو 2016

إن الحق فى الحصول على الدواء جزء ﻻ يتجزأ من حقوق الإنسان (الحق فى الصحة إجمالا) فالمستحضر الدوائى منتج ﻻ غنى عنه، نظرا لضرورته لضمان السلامة البدنية، بل وللبقاء على قيد الحياة فى أحوال كثيرة. وفى سياق الأزمة الأخيرة، والتى لن تكون آخر اﻷزمات فى ملف الصحة والدواء نلاحظ حزمة من الملاحظات أولها: أنه يجب إخضاع تداول الدواء لقواعد تتجاوز مجرد قواعد السوق فى العرض والطلب وهو ما أكد عليه القانون الدولى لحقوق الإنسان وكذا الدستور المصرى فى مادته (18)، إذ يقر بحق الجميع فى الحصول على اﻷدوية المقررة طبيا بشكل منتظم وآمن، وبسعر فى المتناول بغض النظر عن قدرة اﻷفراد على تحمل هذا السعر، عن طريق حمايتهم صحيا وفق نظم تأمينية عامة، أو نظم صحية تمول من الخزانة العامة للدولة.

وللحق فى الصحة كمنظور شامل ومعيارى أيضا حد أدنى للالتزامات التى تقع على عاتق الدولة لتنفيذ واحترام هذا الحق بوجه عام والحق فى الدواء على وجه الخصوص، يشمل هذا الحد اﻷدنى اﻹمداد باﻷدوية الضرورية المنقذة للحياة والأساسية على قاعدة من عدم التمييز لأى سبب من الأسباب.

الملاحظة الثانية متعلقة بالنظام الصحى ذاته والسياسات العامة المتبعة فيه، فنلاحظ أنه فى ظل صدور قرار تحريك أسعار الدواء بنسبة 20% للأدوية الأقل من ثلاثين جنيها، حدثت سلسلة من التجاوزات من فهم وتطبيق القرار من قبل الشركات والموزعين والصيدليات مما دفع الحكومة لمراجعة القرار ومحاولة وضع آليات لضمان تنفيذه بفاعلية وانصاف لتحقيق هدفين هما: حماية الصناعة الوطنية وقدرتها على الإنتاج ومحاولة عدم تحميل المواطنين عبء مٌبالغ فيه لهذا التحريك للأسعار.

***

رغم عراقة نظامنا الصحى وصناعة الدواء فيه (التى أسست سنة 1939 )، إﻻ أنه لم يتعاطَ مع الموقف بالكفاءة الواجبة، فى ظل غياب أطر حوكمة رشيدة لهذا النظام (مثل مجلس أعلى الصحة، ومجلس أعلى للدواء والغذاء) وفى ظل غياب الرؤية والسياسات اﻻستراتيجية الواضحة التى تتبع بغض النظر عن نوعية القيادات القائمة على تنفيذها.

ومن المعروف أن الخدمات الصحية – بما فى ذلك الدواء تقدم من منشآت وزارة الصحة كخدمات مجانية مدعومة، ومن منشآت التأمين الصحى كخدمات تأمينية مدفوعة اﻷجر من اﻻشتراكات مسبقا ولكنها خدمات – إجمالا– تفتقد الجودة وثقة المواطنين ورضاهم! مما يجعلهم يلجأون إلى خدمات القطاعات الخاصة والأهلية حسب قدراتهم المالية وهذا ما أدى إلى زيادة معدﻻت الإنفاق الذاتى من جيوب الأسر والمواطنين إلى قرابة 65% من الإنفاق الكلى على الخدمات الصحية، يشكل الإنفاق على الدواء – فقط – منها قرابة 34% وينفق ذلك فى أغلبه فى العيادات والمستشفيات الخاصة والصيدليات ومراكز التحاليل والأشعة.

جدير بالذكر أيضا – فى هذا السياق – أن تحليل إنفاق الأسر المصرية على الصحة والخدمات الصحية – عموما – من واقع بيانات الجهاز المركزى للإحصاء، يشكل 9.4% من جملة إنفاقها الكلى كمتوسط، فى حين يمثل الإنفاق على الغذاء نسبة 40% من جملة إنفاقها، مما يشكل رقما (للدواء والخدمة الصحية) يثير القلق. وذلك ما يجعل متوسط الإنفاق اﻷسرى على الغذاء والعلاج يمثل قرابة نصف ما تنفقه فى حياتها اليومية وذلك ما يجعل أية زيادات فى أسعار هذه المكونات مشكلة حقيقية تواجه هذه اﻷسر، وتحرمها من أساسيات الحق فى الحياة، وتشكل تهديدا ﻻ يمكن تجاوز آثاره دون وضع سياسات وحلول حقيقية لمواجهة وتقليل نتائجه السلبية على التنمية والأمن.

الملاحظة الثالثة فى هذا السياق أن أزمة الدواء جزء من أزمة المنظومة الصحية وأكبر من جزئية تسعير اﻷدوية وتشوهات السعر وتلاعب الشركات والموزعين، فالمشكلة فى وجود سياسات عامة اقتصادية عادلة، وسياسات عامة صحية محددة وقوية وفى وعى الناس فى علاقتهم بمنظومة الدواء إجمالا، وفى مواجهة عشوائية أسواق الدواء، وفى غياب آليات للحماية الصحية الشاملة وتغطية تأمينية جيدة، وفى انحيازات اقتصادية تتطلع نحو العدالة الاجتماعية فى الصحة، فنحن لدينا سوق دوائى وصحى مفلوت وغير منضبط فى الخدمات الصحية الخاصة إجمالا وفى قطاع الدواء على وجه الخصوص، فنسبة 34% من الإنفاق الكلى على الدواء من جيوب الناس ترجع فى جانب منها إلى استهلاك غير رشيد للدواء، وفى جانب آخر إلى عدم اتباع الإرشادات الطبية الإكلينيكية العلاجية الموحدة من قبل المؤسسات الطبية والأطباء.

***

ويتبقى فى الخلاصة الإقرار بأن هذا نموذج لأزمة قابلة للتكرار إذا لم تكن هناك سياسات عادلة وواضحة، ففى عالم اﻻقتصاد الحر الذى نعيش فى كنفه يجب أن يظل للصحة والتعليم معايير خاصة للحماية اﻻجتماعية ﻻرتباطهم بالتنمية المستدامة وبحقوق الناس فى الحياة واﻻندماج اﻻجتماعى.

وتظل النظرة والحلول الجزئية لمثل تلك الأزمات دون رؤية كلية وشاملة مدخل دائم لإغراقنا فى دوامة تفاصيل تسهم فى تشوية الوعى وإعادة إنتاج اﻷزمات. ولذا، ففى إطار الحق فى الحصة وآليات اقتصاديات العلاج والدواء، يجب أن يُنظر إلى الخدمات الصحية والدواء نظرة خاصة باعتبارها من السلع العامة التى ﻻ يجب أن تترك – فقط – لقواعد السوق والعرض والطلب ويجب أن تحدد التزامات الدولة من أجل الوفاء بهذه الحقوق الشاملة فى إطار سعى الدولة لتنظيم اﻷسواق تشريعيا وإلى السعى لإعادة بناء شاملة للنظام الصحى فى إطار تأمينى متكامل يضمن الحفاظ على حقوق المواطنين فى العلاج الجيد واﻵمن وفى الحفاظ أيضا وفق سياسات محددة على

صناعة الدواء الوطنية بكل محاورها.تم نشر هذا المقال عبر بواية الشروق  بتاريخ 31 مايو 2016