فقه اﻷزمة وأولويات اﻹصلاح الصحى
يعانى نظامنا الصحى من أزمة مزمنة منذ سنوات طويلة تتبدى مظاهرها فى عدم رضاء المواطنين عن جودة وكفاءة أدائه إلى جانب ضعف انتماء مقدمى الخدمات فيه من أطباء وتمريض وعاملين داخل المؤسسات العامة التى ينخرطون بها، ما ينعكس على النتائج الصحية المرجوة من هذا النظام.
على الرغم من أننا من الدول العريقة التى أسست نظما صحية على النمط الأوروبى من القرن التاسع عشر «محمد على»، إﻻ أن هذا التاريخ العريق، بالذات، هو ما يشكل التحدى الأكبر لمحاولات إصلاح هذا النظام على العكس من كثير من الدول التى بدأت محاوﻻت اﻹصلاح بها ــ من نقطة صفرية ــ جعلتها ﻻ تتردد كثيرا أمام خطوات سريعة للبناء والهيكلة، بما يضمن كفاءة وإنصاف أداء نظمها.
***
وفى بلادنا تجرى اﻵن محاولة جديدة للإصلاح الصحى قد ترتبط بالضرورة بإحداث تغيير مجتمعى كلى فى جوانبه السياسية واﻻقتصادية واﻻجتماعية، تستند إلى الدستور وإلى مقاربة حقوقية للحق فى الصحة، باعتبارها من الحقوق اﻷساسية للإنسان، كما أنه يستلزم وضع ترتيب للأولويات الصحيحة وفقا للموارد واﻹمكانيات البشرية المتاحة وفى هذا المجال ثمة محوران حاكمان:
اﻷول: يختص بضرورة توفير المحددات اﻻجتماعية للصحة التى تشمل مياه الشرب والصرف الصحى والتعليم الجيد والمأوى اﻵمن والغذاء المتوازن إلى جانب الحد من الفقر بتوفير فرص عمل حقيقية ومستويات معيشة عادلة وكريمة.
الثانى: يتعلق بإتاحة الرعاية الصحية الجيدة فى المستوى اﻷساسى منها والضرورى وبخاصة فى الريف والعشوائيات وتخصيص الموارد المالية والبشرية بكفاءة ﻹنجاز هذه اﻹتاحة جغرافيا مستهدفا الحماية الصحية من عبء المرض لكل المواطنين على اﻷقل فى هذا المستوى دون تمييز.
كما يعد فى باب اﻷولويات أيضا، إصلاح السياسات والتشريعات وهياكل التنظيم وتقديم الخدمات الصحية، لضمان حوكمة رشيدة لهذه المنظومة والنظر فى هياكل أجور ومزايا مقدمى الخدمات من أطباء وممرضين ومساعدين صحيين وعاملين لتحقيق انتمائهم إلى المؤسسات العامة الصحية ومعايير الجودة وحسن اﻷداء وأخلاقيات المؤسسة الصحية والمتعاملين معها من أفراد ومرضى عبر آليات قابلة للرصد والتقييم وصولا واستهدافا إلى تحسين المخرجات النهائية لهذه المنظومة المتمثلة فى سنوات عمر معاشه فى صحة وبدون إعاقة ومعدلات مَرَضِية منخفضة وبخاصة للأطفال واﻷمهات والحوامل.
فالواضح من التجارب السابقة أن أهم التحديات التى تواجهنا تتمثل فى افتقاد الخبرة والكفاءة واﻹنصاف فى إدارة مواردنا المالية والبشرية مما يحتم علينا العمل الفورى على غلق فجوة اﻹنصاف والكفاءة بإرادة سياسية تنحاز للأفقر واﻷكثر احتياجا بتخصيص المواد فلا يمكن ضمان ذلك فى ظل نظام يتسم بالتبعثر وفقدان الرؤية والتكامل ونظم اﻹحالة، ويدار بردود اﻷفعال عبر بيروقراطية عتيقة، شديدة السلطوية والمركزية ﻻ تؤمن بالمشاركة المجتمعية والمساءلة والشفافية، وذلك ما يجعل من أولويات المواجهة للإصلاح حلحلة هذه المركزية البيروقراطية وتطوير آليات حكم محلى يتسم بالنزاهة والشفافية والمشاركة واستخدام آليات المساءلة قاعديا «المحليات» وعلى مستوى وضع السياسات الاستراتيجية الكبرى فى الصحة وغيرها.
***
وما يضمن ذلك فى التحليل اﻷخير هو تحفيز العمل المجتمعى المبادر إلى تحسين الناتج اﻹجمالى المحلى الذى يساعد كليا فى زيادة اﻹنفاق العام على الرعاية الصحية، كما يدفع إلى تحقيق معادلة التنمية المستدامة العادلة بأهدافها المعلنة أخيرا، وذلك ما افتقده نظامنا فى العشرية اﻷخيرة.
فبرغم وجود زيادة واضحة فى الناتج اﻹجمالى المحلى إﻻ أن اﻹنفاق العام على الرعاية الصحية كأولوية، ظل يراوح فى مكانته المتدنية «5%» كما أن مسار تاريخ هذا النظام الصحى فى مراحله المتتالية شهد تأسيس آليات التأمين الصحى اﻻجتماعى، والتى استهدفت منذ إنشائها فى سنة 1964 كفالة الحق فى الحماية الصحية التأمينية لجميع المصريين فى عشر سنوات وذلك ما لم يتحقق حتى اليوم، حيث تمت تغطية شكلية لقرابة 57% من السكان، أغلبهم من سكان الحضر والعاملين فى أطر القطاع الرسمى من العمل، متجاهلا الكتلة الحرجة واﻷكثر احتياجا للرعاية الصحية فى الريف والقطاع غير المنظم من العمل، ما اعتبر تمييزا سلبيا كرس لعدم اﻹنصاف والعدالة، ما حتم فى باب اﻷولويات اليوم البدء فى استهداف هذه الشرائح المهملة تمهيدا لدمجها اجتماعيا فى إطار الحماية الصحية التأمينية الشاملة، فهل يكون ذلك فى خلفية المخطط الاستراتيجى بوضوح العمل داخل مربع اﻹتقان لعلاج اﻷزمة «لمواجهة ما هو هام وعاجل إلى جانب ما هو هام وغير عاجل» أى قانون التأمين الصحى اﻻجتماعى الشامل، الذى يعمل عليه اﻵن وقد يحتاج إلى جهود حثيثة وسنوات ﻹنجازه.
هذه بعض مظاهر اﻷزمة وبعض مقترحات اﻷولويات الصحية الصحيحة، التى تضفى على محاولة اﻹصلاح الحالية منطقا وعقلا أكبر مما يحمل بعضلات شكلية، ويجعل من قصة الصحة واﻹنسان فى مصر على قمة أولويات الدولة، ويجعلنا نطرح سؤالا يبدو بديهيا دائما وهو أين تكون الصحة بالضبط فى سلم اﻷولويات فى ظلال ندرة الموارد وتصاعد وتائر اﻷزمة الاقتصادية، واﻹجابة ربما تكون وبصدق فى التعليم والصحة فهما المدخل الحقيقى للخروج من عنق الزجاجة الخانقة، ﻹحداث أمل التنمية المستدامة العادلة.
تم نشر هذا المقال عبر بوابة الشروق الإلكترونية بتاريخ 17 نوفمبر 2015