أى حق للصحة فى دستور البلاد الجديد؟

28 أغسطس 2012

ثار المصريون على ميراث عقود طويلة من الاستبداد والاستعباد والتهميش وخرجوا حاملين شعارات تطالب بحقوقهم لا السياسية والمدنية فحسب بل الاجتماعية والاقتصادية كذلك، ومع سقوط مبارك انتقلت البلاد إلى مرحلة جديدة بانتخاب رئيس جديد وإلى عملية صياغة دستور جديد من المفترض أن يعبر عن آمال جماهير المصريين التى خرجت للشارع ولصناديق الاقتراع ويأتى على رأس هذه الآمال أن ينص الدستور صراحة وبكل قوة على جملة من الحقوق الاجتماعية والسياسية والمدنية الأساسية التى لا سبيل للنكوص عنها ولا امكانية لتخاذل الدولة عن الوفاء بها وحمايتها وحفظها وتمكين المواطنين من استحقاقها بما فيها الحق فى الصحة والحق فى التعليم والحق فى السكن والحق فى البيئة وغيرها.
 
ثمة توجه بين القائمين على صياغة مشروع الدستور الجديد للإبقاء على النصوص الخاصة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية كما هى دون تغيير يذكر باعتبار أن صياغتها كانت تكفى وأن ما عابها كان القصور فى التطبيق لا الصياغة. ويعود هذا التوجه إلى غياب أى نقاش جاد حول مستقبل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية فى مصر ما بعد الثورة، وغلبة الأسئلة السياسية الآنية كطبيعة نظام الحكم وهوية الدولة ودور المؤسسة العسكرية على المسائل بعيدة المدى التى تمس جذور الاحتجاج الاجتماعى فى مصر، وبالتالى أكبر ثورة شعبية تقع فى تاريخ البلاد الحديث. كما يعود إغفال مراجعة وتحديث النصوص الخاصة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية إلى الرغبة فى التعجيل بالانتهاء من دستور ما استجابة لظروف سياسية قصيرة المدى لا تتناسب وطبيعة الوثيقة الدستورية كتأسيس بعيد المدى لنظام اجتماعى وسياسى جديد فى أعقاب ثورة لا تزال تهز أركان البلاد.
 
يشوب النصوص الخاصة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية فى دستور 1971 الملغى الكثير من العيوب على رأسها أنها أتت مائعة غامضة وغير مفصلة، وأن ثمة خلطا كبيرا بين مفهومى الحق والخدمة العامة على نحو لا يوضح بصراحة طبيعة التزام الدولة إزاء مواطنيها. كما أن دستور 1971 أتى فى صيغــــة دســــــتور المنحـــــــة من الرئيس الأسبق، ولم يعكس مطالبات اجتماعية واقتصادية ناضجـــــــــة فأتت الصياغات فضفاضة تعبر عن النوايا الحسنة ولا تعكس التزامات صريحة.
 
تنطبق الملاحظات السابقة تمام الانطباق على النصوص الخاصة بالصحة فى دستور 1971 ففى المادتين 16 و17 يأتى النص على كفالة الدولة للخدمات الثقافية والاجتماعية والصحية وكذا خدمات التأمين الاجتماعى والصحى ومعاشات العجز عن العمل والبطالة والشيخوخة للمواطنين جميعا وذلك وفقا للقانون. وكما هو واضح فإن هذه النصوص لا تعكس التزامات مصر الواردة فى المواثيق الدولية، ولا ترقى لما يصبو إليه المصريون بعد الثورة. فالنصوص شديدة العمومية والإبهام من حيث عدم اشتمالها على ما يضمن تنفيذ الالتزام بمحتوى الحق فى الصحة والحماية الاجتماعية، بل إن هاتين المادتين فى حد ذاتهما لا تضمنان الحق والذى يظل غير محقق رغم مرور أربعين سنة على وضع هذه المواد.
 
فالتأمين الصحى لا يغطى سوى 50% من المصريين عموما بينما يظل البعض الآخر الأكثر احتياجا وفقرا مهمش دون أدنى حماية أو تأمين ضد المخاطر الصحية، ولا يزال الجزء الغالب على الإنفاق الكلى على الصحة يخرج من جيوب المواطنين مباشرة بنسبة تفوق 70% من إجمالى الإنفاق بما يعنى أن عبء العلاج يقع فعليا على المواطنين بينما لا تفى نظم التأمين العام بشىء عنهم، وليس بخاف على أحد أن المؤشرات الصحية فى مصر تظهر انحيازا شديدا على حساب الأكثر فقرا حيث يستفيد الأغنياء نسبيا من غالب الخدمات العامة.
 
والخلاصة أن النصوص الدستورية المشار اليها قد عجزت عن كفالة حقوق ذات مغزى ومضمون للرعاية الصحية وقد انعكس ذلك على استمرار انتهاك الحق فى الصحة بصورة أساسية للأكثر فقرا وتهميشا وعلاوة على ذلك فإن السياسات والبرامج الخاصة بالصحة العامة تصاغ دون اعتبار للمحددات الاجتماعية للصحة دون إيلاء الاهتمام الكافى بمبدأ عدم التمييز ومبادئ حقوق الإنسان الأخرى، ومن هنا فإن تناول ما يتعلق بالحق فى الصحة فى دستور ما بعد الثورة يجب أن يترجم النص صراحة إلى تفعيل هذا الحق وبما يضمن حفظه وحمايته والدفاع عنه والوفاء به من قبل الدولة. تماما كما فعلت دساتير العديد من البلدان المشابهة لنا كالبرازيل وجنوب إفريقيا وبنما وفنزويلا وبوليفيا وغيرها لتأكيد احترامها لمنظومة حقوق الإنسان والسعى لجعلها أمرا واقعا للمستقبل.

فى ضوء ما تقدم فإن النص على الحق فى الصحة فى مشروع الدستور الجديد يجب أن يأتى مفصلا وواضحا لا يحتمل اللبس ولا التأويل. وذلك عن طريق النص صراحة على التزام الدولة بالوفاء والحماية للحق فى الصحة لجميع المواطنين باعتباره حقا إنسانيا تكفله الدولة دون تمييز عبر وضع سياسات اجتماعية واقتصادية تهدف إلى خفض وتوزيع أعباء المرض وتوفير وإتاحة الخدمات الصحية بما يشمل الوقاية والعلاج والتوعية. كما يجب أن يتطرق النص إلى جودة الخدمات الطبية المقدمة باعتبارها جزءا أصيلا من التزام الدولة لأن خدمة دون جودة لن تفى بالحق فى الصحة. كذلك ينبغى النص على التزام الدولة بتأسيس نظام صحى موحد تتكامل مستويات الخدمة من خلاله وتعطى أولوية كاملة للصحة العامة والوقاية وتحفيز المشاركة المجتمعية فى إدارته ومراقبته. ولا ينحصر التزام الدولة بالحق فى الصحة فى تقديم الرعاية الصحية وإنما يمتد إلى التزام الدولة بتوفير العوامل المحددة الأساسية للصحة مثل المياه الصالحة للشرب والصرف الصحى والغذاء المأمون والسكن والظروف المهنية المناسبة والعوامل البيئية المواتية. وآخرا وليس أخيرا فإنه ينبغى النص على التزام الدولة بالعمل على تأسيس مظلة حماية تأمينية صحية وطنية لجميع المواطنين دون تمييز فى إطار تطوير قيم التضامن والمساواة.

* نشر في جريدة الشروق 27 أغسطس 2012.