تساؤلات حول شعار التأمين الصحى

2 أبريل 2012

أصبح التأمين الصحى الاجتماعى الشامل فى مصر أقرب إلى الوصفات الجاهزة للإجابة عن كل المشكلات والأزمات التى نواجهها فى نظامنا الصحى لدى عدد كبير من نخبة الخبراء المهمومين بمشكلات هذا النظام. فهل هذا الحديث فى محله؟ وهل إصلاح قطاع الصحة يكمن فى تأسيس نظام تأمين صحى شامل الآن؟ ولماذا يعد هذا الكلام غير واقعى وربما تشوبه السطحية وربما الاستخفاف بالمتابعين للشأن الصحى؟
 
فكلما تصاعدت وتائر أزماته ـ كلما طرحوا ـ أو بعضهم ـ الأكثر رومانسية ـ الحل فى الشروع فورا فى وضع قانون جديد للتأمين الصحى الاجتماعى الشامل يضمن لكل المواطنين الحماية الصحية والاجتماعية وتوزيع مخاطر وأعباء المرض بطريقة عادلة.
 
وكأنما الاكتفاء بالشعار يعفى الجميع من مخاطر العمل والإفاقة الجادة على أوجاع التاريخ العاصف الذى يحيط بنا! ورغم أن كثيرين منهم يجيد التحليل إلا أن أغلبهم لا يجيد الاستنتاج من هذا التحليل.
 
فالمعروف علميا أن نشأة مثل هذه النظم المتطورة تحتاج إلى شروط مسبقة ــ ضرورية ــ لنجاحها (pre-requisites) مما يجعلنا نتساءل هل نضجت وتوافرت هذه الشروط لتغلق الفجوة بين الحلم والواقع؟
 
يجدر بنا أن نلقى نظرة شاملة على النسق المصرى الاقتصادى والسياسى والثقافى كليا لنتمكن من تحديد أى نقطة نقف الآن. فمصر ولا شك دولة مهمة ومحورية، وهى مصنفة باعتبارها دولة فى الحد الأدنى للدول متوسطة الدخل (الناتج الإجمالى المحلى كان نحو 120 مليار دولار فى 2007) بينما بلغ متوسط نصيب الفرد منه نحو (1.580 دولار سنويا)، وقد وصل إلى تريليون و260 مليون جنيه فى عام 2010/2011، ولم يتغير متوسط نصيب الفرد كثيرا بسبب ارتفاع التضخم والزيادة السكانية، ويقدر حجم الاقتصاد غير الرسمى من هذا الناتج المحلى الإجمالى بما يزيد على 60% من مجمل النشاط الاقتصادى، ما يظهر أن الجزء الأكبر من الاقتصاد ينشط خارج الأطر الرسمية على نحو يعوق عمل منظومة تضامن اجتماعى فعال نظرا لعدم انتظام دخول وأعمال الجزء الأكبر من العاملين فى إطار الاقتصاد غير الرسمى، ومعلوم أن التأمين الاجتماعى الشامل لا يقوم إلا على أساس مفهوم التضامن.
 
كما يقدر عدد الذين يقعون تحت خط الفقر فى التقديرات الرسمية بما لا يقل عن 25% من السكان، وفى تقديرات أخرى لمراكز بحثية مهمة ومحترمة بما لا يقل عن 40% من السكان، ويمثل العجز فى الموازنة العامة للدولة فى عام 2009/2010 ما يقل عن 8.3% من الناتج المحلى الإجمالى فى حين لا تقل نسب البطالة عن 20% من حجم القوى القادرة على العمل.
 
وفى هذا الإطار ـ غير الرومانسى بالمرة ـ يتجرأ البعض برفع شعار يوحى بإمكانية تحقيق التأمين الاجتماعى الصحى الشامل لكل السكان بل وفى خمس سنوات فحسب! وذلك فى ظل دعاوى مغلوطة تدعى أن لدينا بالفعل تغطية تأمينية لقرابة 54% من السكان، لأن الجميع يعلم أن هذه التغطية مجرد اسمية مع تدنى مستويات الخدمة، وضعف الإقبال على العيادات والمستشفيات الحكومية، وانصراف الجزء الأكبر من الإنفاق الكلى للصحة إلى العيادات الخاصة. وهذه الحقائق كلها تدفعنا دفعا إلى مراجعة الشروط الضرورية قبل التلويح بمثل هذا القانون الآن.
 
على كل أمة أن تقرر استراتيجية لتمويل نظامها الصحى حسب ظروفها الواقعية، مستخدمة مزيجا من الأساليب التمويلية المتاحة لضخ أموال فى أوعية نظامها الصحى لتحسين جودته ونتائج عمله على مؤشراته الصحية، وفقا لتطورها الاقتصادى والاجتماعى: فنصيب الفرد من الناتج الاجمالى المحلى يرتبط بشدة بالقدرة على المشاركة وحشد وتعبئة الأموال للحماية التأمينية، كما يشمل أساس الضريبة الذى تستطيع بموجبه الأمة جمع الإيرادات التى تمثل عنصرا آخر مهما لتمويل النظام إلى جانب الاشتراكات، هذا إلى جانب الأخذ فى الحسبان عدد العاملين فى القطاع الرسمى من الاقتصاد مقابل عدد العاملين فى القطاع غير الرسمى بما يؤثر على القدر الذى يمكن جمعه من خلال التأمين الاجتماعى (والضمان) وعدد الأسر الفقيرة التى يجب دعمها ماليا. فالمعروف أنه حين يتقدم التصنيع فى بلد ما ينمو متوسط دخل الفرد بما يجعل إمكانية التوسع فى التأمين الاجتماعى قائمة، فهل هذا ما يحدث لدينا بعد عقود من السلطوية المباركية المظلمة؟ 
 
وتعتمد قدرة الأمة فى جمع الأموال من الإيراد العام على حجم قواعد الضريبة المتصاعدة العادلة وحجم النشاط الاقتصادى الخاضع لهذه الضريبة، كما أن قابلية التطبيق لمثل هذه النظم الحديثة فى وعاء تمويلى كبير يتطلب إنشاء سجلات، وتأسيس نظم محاسبية ومراجعة، ونظم معلومات حديثة وهيئات إدارية على أعلى درجة من النزاهة والكفاءة فهل نمتلك ولو بعضا من هذه القدرات الإدارية والتمويلية؟   
 
وسياسيا يعتمد النظام على القبول الاجتماعى له، وعلى اتجاهات سلوك العامة نحو السلطة أو الحكومة عموما، وعلى قدر الثقة فى هذه المؤسسات فى التحليل الأخير. وينبغى أن ندرك أن سياسات التأمين الصحى هى فى النهاية سياسات عامة تنطوى على جمع وإعادة توزيع للموارد الاقتصادية النادرة، وهذه عملية خاضعة لحسابات سياسية فى الأصل، ومعلوم أن اتخاذ القرارات فى النظم الديمقراطية يشمل مراقبة الطريقة التى تنفق بها الأموال العامة، ومقدار ما تنفقه الحكومة، وذلك كله يفترض أن ثمة أطرا سياسية تسمح للمواطنين بالمشاركة والممارسة والتحكم فى العملية، فهل هذا ما نمتلك الآن بعضا منه؟ بل هل هو مطروح فى المنظور القريب؟
 
هذا كله بالإضافة إلى ضرورة توفر معايير أساسية أخرى مثل الإنصاف أفقيا (بين المناطق الجغرافية مثلا) ورأسيا (بين الطبقات الاجتماعية والفئات العمرية على سبيل المثال) فى توزيع تكلفة عبء المرض وغيرها من المعايير المرتبطة بالتضامن والمساواة والعدالة الاجتماعية.
 
لماذا إذن الحديث عن قانون للتأمين الصحى الشامل، وبذل الوعود الفارغة بإتمام نظام عادل وشامل للتأمين الصحى الاجتماعى فى خمس سنين رغم معرفة المتحدثين أنفسهم قبل غيرهم بانتفاء الفرص لذلك؟ ولماذا لم ينصب تركيزهم على إصلاح ما هو عاجل فى المنظومة الصحية المهترئة والتى لا تستطيع أن تدير نظام تأمين صحى شامل فى الوقت الراهن بالتأكيد؟ أم أن طرح المسألة الآن وسيلة لتضليل الرأى العام ولإعادة تقديم رموز قديمة ـ جديدة ـ من النظام السابق ولكن بأقنعة جديدة؟

* نشر هذا المقال في جريدة الشروق 2 ابريل 2012.