الحملة على صانعي المحتوى: خلطة القمع الأمني والتمييز الطبقي و"الذعر الأخلاقي" خطر على المجتمع

بيان صحفي

3 أغسطس 2025

تطالب المبادرة المصرية للحقوق الشخصية وزارة الداخلية والنيابة العامة بالتوقف عن ملاحقة صانعي المحتوى عبر الإنترنت، عبر توجيه اتهامات  مبهمة ذات طابعين أخلاقي وطبقي مثل ”التعدي على قيم الأسرة المصرية“، ضمن حملة أمنية شرسة تأتي في إطار حملة أوسع لتجريم المحتوى عبر الإنترنت بشكل انتقائي وغير معرف قانونيًا، بدأت في 2020 وتستمر حتى اليوم. 

خلال الأيام القليلة الماضية ألقت قوات وزارة الداخلية القبض على سبعة على الأقل من صانعي المحتوى من ذوي المتابعين الكثر عبر تطبيق تيك توك، منهم طفلة دون الثامنة عشرة. وتشير المعلومات القليلة الموثقة المتاحة إلى أن النيابة تواجههم باتهامات ذات طابع أخلاقي منها "التعدي على قيم الأسرة المصرية". سبقت ذلك بأيام حملات مكثفة عبر الإنترنت تطالب بالقبض على مجموعة من صانعي المحتوى، وخاصة من النساء، تجمع بينهم خلفياتهم الاجتماعية البسيطة، ونجاحهم في تحقيق دخل وشهرة من محتواهم عبر الإنترنت. سبق ذلك تلقي النيابة العامة الأسبوع الماضي عدة بلاغات قدمها ضدهن -وضد آخرين- محامون عدة.  منها بلاغ مقدم من 32 محاميًا ضد عشرة من صناع المحتوى، ثمانية منهم من النساء.

 

شهد شهر يوليو الماضي اهتمامًا واسعًا في وسائل التواصل الاجتماعي بادعاء أطلقته إحدى مستخدمات تيك توك بوجود عصابة دولية للتجارة في الأعضاء البشرية، بقيادة نساء من مستخدمات تيك توك. ورغم خلو تلك الادعاءات من أية أدلة، إلا أنها خلقت حالة من الذعر الأمني والأخلاقي ضد صانعات المحتوى المشار إليهن وغيرهن. 

الذعر الحادث في أعقاب تلك الادعاءات، مهدت له منذ سنوات النيابة العامة نفسها بخطابها الذي دأب على شيطنة مستخدمي تيك توك، لا سيما النساء منهم، وخاصة من ذوي الخلفيات الطبقية المتشابهة مع أغلب المصريين والمصريات. ولم تتوقف وزارة الداخلية عند القبض على صانعة المحتوى التي أطلقت رواية شبكة تجارة الأعضاء –والتي أمرت النيابة بحبسها 15 يومًا على ذمة التحقيق في اتهامات منها نشر أخبار كاذبة– ولكنها ساهمت في تغذية حالة الذعر والغضب العامة الموجهّة لصناع المحتوى على تيك توك، فتتالت أخبار القبض عليهم. 

في سياق مواز أعلن النائب أحمد بدوي، رئيس لجنة الاتصالات بمجلس النواب، أن المجلس قبل انتهاء دور انعقاده الشهر الماضي، كان قد عقد عدة اجتماعات مع ممثلي تطبيق تيك توك في مصر، لــ"تحسين المحتوى المنشور". مؤكدًا على دعم مصر للاستثمار في مجال التكنولوجيا، وملوحًا باحتمالية حجب المنصة وتطبيق قانون جرائم تقنية المعلومات بشأنها. ويذكِّر ذلك باللقاءات التي عقدت بين ممثلي للحكومة المصرية وممثلي شركة بيجو بحضور السفير الصيني بالقاهرة  في عام 2020، والتي سبقتها أيضًا - على نحو مشابه لما يجري الآن - حملة قبض على صانعات المحتوى.

قيم

حالات القبض المتتابعة تلك، تبدو ذروة لنمط امتد على مدى الأعوام الخمس الماضية ومستمر حتى اليوم، من معاداة الدولة وأجهزتها القانونية والأمنية لصناع المحتوى على تيك توك، طبقًا لمعايير منحازة طبقيًا وجندريًا وأخلاقيًا وغير معرفة قانونيًا.  ففي أبريل 2020 قبضت وزارة الداخلية على مستخدمة تيك توك حنين حسام، وأعلنت الصفحة الرسمية للنيابة العامة اتهامها بالمشاركة في عصابة دولية للاتجار بالبشر. وبداية من هذا اليوم بدأت حملة لم تتوقف حتى يومنا هذا لملاحقة المحتوى الرقمي والتعبير الشخصي، وتجريمهما عبر اتهامات ”التعدي على أى من المبادئ أو القيم الأسرية فى المجتمع المصرى“ بموجب المادة 25 من قانون ”جرائم تقنية المعلومات“ رقم 175 لعام 2018؛ لتصبح تلك المادة واحدة من أهم أدوات تجريم التعبير في مصر، وأداة جديدة من أدوات قمع الدولة ومؤسساتها القانونية لحرية التعبير. بل إن الشعار الذي بدأت به المطالبات بملاحقة صانعات المحتوى في 2020 تحت عنوان ”خليها تنضف“ استمر ليصبح شعار دعم حملة القبض الجماعية في الأيام الأخيرة. وصاحبت تلك الحملة في كل ذروة لها، حالات ذعر أخلاقي وأمني، مرة بدعوى الاتجار بالبشر، وأخرى بالاتجار في أعضائهم. 

استمرت تلك الحملة على مدار خمس سنوات، ليقع تحت طائلة الاعتداء على قيم الأسرة المصرية أكثر من 151 شخصًا في أكثر من 109 قضية مختلفة على الأقل، وهي الأرقام التي تعبر عن القضايا التي إما قدمت فيها المبادرة المصرية للحقوق الشخصية المساعدة أو النصح القانوني، أو اطلعت على أوراقها أو قامت بحصرها ومتابعتها. وبذلك فإنها لا تعبر بالضرورة نطاق الحملة الفعلي، والذي يتوقع أن يكون أوسع كثيرًا من تلك القضايا المرصودة. 

توسعت الحملة التي بدأت باستهداف مستخدمات للإنترنت وخاصة تطبيق تيك توك، لتشمل أصحاب آراء دينية قد تخالف تفسيرات المؤسسات الدينية الرسمية مسلمة ومسيحية، ومستخدمين للإنترنت من الرجال إما بناءً فقط على مثليتهم أو للشك في مثليتهم، أو لمبررات أخرى متباينة. بل وطالت الحملة أطفالاً، وحتى أشخاص بناءً على محتوى خاص لم يُتداول للعامة. وتوسع استخدام المادة 25 من قانون جرائم المعلومات ومادته المعروفة بـ“التعدي على قيم الأسرة المصرية“ لملاحقة المواطنين بشكل عام، بعدما كانت تستهدف بصورة أساسية تلك الفئات. 

كما فتحت هذه الملاحقات المتتالية الباب على مصراعيه للأفراد لمراقبة المحتوى الرقمي بأنفسهم، وتقديم البلاغات ضد بعضهم البعض بناء على محتوى لا يتضمن أية جريمة. وساهم في ذلك خطاب النيابة العامة في بياناتها على صفحة فيسبوك وغيرها بدءًا من 2020، والذي دعت فيه المواطنين للمساهمة في ضبط الأخلاق العامة وتقديم الشكاوى ضد المحتوى غير المقبول بالنسبة لهم. بل ورسخ ذلك لنشاط مجموعة من المحامين الذين وجهوا جهودهم بشكل خاص تجاه صانعات - وبعض صناع- المحتوى، ونشطوا في تقديم البلاغات ضدهم بشكل مستمر.

 وتغذي الدولة هذه الممارسات المتصاعدة عبر الاستجابة لها، مما يرسل رسالة واضحة للمجتمع بأن الدولة ستستجيب لرغبات البعض في تقييد وتجريم ممارسات آخرين لحقهم في حرية التعبير بلا ضوابط واضحة أو وجود جريمة من الأصل. 

لا يمكن فهم دور ”قيم الأسرة“ كسلاح قانوني جديد في التشريع المصري بمعزل عن الأوضاع والممارسات السياسية والاجتماعية والقانونية في مصر في خلال العقد الماضي، الذي شهد  تكرار الأخطاء التشريعية -سواء عن قصد أو نتيجة تواضع القدرات التشريعية- في عدم التعريف الدقيق للأفعال المجرمة باستخدام صياغات مطاطية كـ“قيم الأسرة“، أو قانون 128 لسنة 2014 والذي عرف باسم قانون تجريم ”أو أية أشياء أخرى“. واتباع القضاء المصري بشكل روتيني لأسلوب تسبيب أحكام الدرجة الأولى في الجنح، في شكل مسودات جاهزة يضاف إليها فقط الحكم النهائي واسم المتهم ورقم القضية، مع تساهل غير مسبوق مع انتهاك حقوق المتهمين الإجرائية منذ اللحظة الأولى. 

ويمكن بسهولة رؤية تلك الاتهامات والممارسات في إطار  التطبيع التام مع تجريم حرية الرأي السياسي أولًا، ومن بعده كل أشكال التعبير الأخرى، بما يتضمنه ذلك من معاداة واضحة للإنترنت كمساحة صغيرة باقية للمصريين والمصريات للتعبير حتى غير السياسي. ولكن الأجدر النظر لتلك الممارسات ضمن مشروع الدولة للضبط الاجتماعي وقولبة المصريين في المظهر والرأي والسلوك، ورفض أي مظهر للتنوع الاجتماعي. فبينما تستخدم الدولة بشكل دائم لغة ”بناء المواطن المصري“ كمشروع قومي يدعي ضمان الحدود الدنيا للحقوق الاجتماعية دون كفالتها، فإن الدولة بالموازاة  ما لبثت تؤكد على ألسنة مسؤوليها أنها تسعى "لبناء المواطن المصري" بمواصفات يمكن رصدها، يبدو فيها المواطن ذو شكل ووزن محددين ويتبنى انحيازات وعقائد بعينها، وسلوك شخصي وأخلاقي موحد. ولا يخفى بأي شكل الطابع الطبقي الصارخ لتلك القولبة، فعندما تصرح النيابة العامة أنها استحدثت دورًا لنفسها بالدفاع عما تسميه ”الأمن القومي الاجتماعي“، فإنها تقصد بشكل أساسي السلوك والشكل والتعبير الشخصي للأفراد من الطبقات الأكبر حجمًا في مصر، بتركيزها على ضبط سلوك الأفراد، وخاصة النساء، من الطبقات الوسطى والأكثر فقرًا، ليتوافقن مع صورة متخيلة لأخلاق وممارسات معممة لصورة الطبقة الوسطى المصرية. 

لا يمكن قراءة دور ”قيم الأسرة“ بمعزل عن مشروع السلطة الحالية لضبط سلوك الأفراد و“تأديبهم“ لو حادوا عن طريق الأخلاق التي تقررها الدولة لمواطنيها، حتى لو كان ذلك ضمن حدود حياتهم الشخصية وتعبيرهم عن ذواتهم. هذا المشروع الأخلاقي والأُسري المحافظ، هو جزء من مشروع الدولة الأكبر للاستيلاء على كل المجال العام، ومنع أي خطاب أو تعبير قد يعكر تلك الهيمنة، وهو ما أطلقت عليه المبادرة المصرية نمط "السلطوية الأخلاقية". 

كانت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية قد أصدرت في مايو الماضي دراسة بعنوان "حرية افتراضية: نحو إنهاء قمع حرية التعبير في قانون الجريمة الإلكترونية"، تضمنت تحليلًا مفصلًا لما رصدته ووثقته من انتهاكات خلال اشتباكها مع طائفة واسعة من القضايا التي تضمنت تعديًا صريحًا على حريات المواطنين باستخدام قانون الجريمة الإلكترونية المعيب، ومخالفته لكل من الدستور المصري والفقه القانوني المستقر، فضلًا عن مخالفته للقانون الدولي لحقوق الإنسان.