صورة اللقاء الذي عُقد في المبادرة المصرية Taken by Mustafa abd el Ghany

التغطية الصحية الشاملة ووضع الصحة في مصر

خبر

19 ديسمبر 2019

يوم 12 ديسمبر هو اليوم العالمي للتغطية الصحية الشاملة، وقد نسقت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية مائدة مستديرة لمقاربة نماذج ناجحة من دول الجنوب العالمي في توفير خدمات صحية ذات جودة عالية من خلال أنظمة تأمينية صحية أو ما شابهها من شبكات تغطية اجتماعية، للبحث عن التشابهات مع واقع تشغيل منظومة التأمين الصحي الشامل في مصر.

وفي هذا السياق، بدأ ما يسمى بتشغيل تجريبي لتنفيذ القانون بداية من شهر يوليو الماضي ولمدة شهرين. ورغم استحالة إجراء عملية تقييم علمية كاملة الآن لما يحدث جراء إجراءات التنفيذ الفعلية لمنظومة جديدة، تعد هي الأكثر شمولًا وصعوبة في تنفيذها لما تشمله من إعادة هيكلة وبناء جديد لها، بتأسيس ثلاث كيانات مستقلة لها شخصية اعتبارية جديدة لتمويل وإدارة الخدمات، ولمراقبة الخدمة ووضع معايير جودتها واعتمادها، على الرغم من ذلك كانت ردود فعل بدء التشغيل التجريبي عند الخبراء وعند المواطنين تستدعي رصد حالة مبدئية للموقف العام لما يجري على الأرض في بورسعيد تحقيقًا لمسئولية تفعيل آليات مشاركة ومتابعة التغيير في تاريخنا الصحي الحديث.

 في إطار أهمية المشاركة المجتمعية في التقييم والرقابة، قدمت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية تقييمًا مجتمعيًّا للتطبيق التجريبي في محافظة بورسعيد، وإلى جانب اهتمامنا بتفعيل دور الرقابة المجتمعية في تطبيق منظومة التأمين الصحي الشامل، منشغلين أيضًا بالتعلم من تجارب وسياقات متشابهة من بلدان أخرى. في ضوء الإعلان السياسي للتغطية الصحية الشاملة في سبتمبر الماضي وقت انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، ركزنا في مناقشة المائدة المستديرة حول حوكمة النظام الصحي وعلاقتها بفاعلية التطبيق. في احتفائنا بتدشين مبادرات وطنية معنية بتحقيق العدالة الاجتماعية، نطالب بدور المواطنين في التخطيط والرقابة والمشاركة في مراحل مختلفة من عملية صنع القرار والتنفيذ. وبقدر ما ترتبط حوكمة النظام الصحي وعزمه على توفير بنية تحتية تحقق إستراتيجية التنمية المحلية عبر توفير الموارد المالية والتقنية، يجب الاستثمار في جودة وإتاحة ووفرة الخدمات الصحية، المتخطية للفروق الهيكلية والجغرافية في مختلف المجتمعات المصرية. 


شارك كل من د. ناجي شفيق، خبير صحة عامة، عمل في بلدان شرق آسيا لسنوات، ود. إسحق المنقبادي خبير اقتصاديات الصحة، عن تجاربهم الميدانية، واختتم د.علاء غنام خبير الإصلاح الصحي ومدير برنامج الحق في الصحة في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، بعرض النتائج المرحلية للتقييم المجتمعي للتأمين الصحي الشامل في محافظة بورسعيد. 


ناقش الدكتور ناجي شفيق تجارب من الهند، إندونيسيا، تايلاند، كمبوديا، كوبا، وكوريا الشمالية، مفادها:

 1) أهمية الالتفاف حول رؤية طويلة الأمد يحددها الخبراء والمجتمع المدني ولا تتغير مع كل حكومة،
 

2) يجب أن تُبنى القرارات على أساس معلومات ودراسات اقتصاديات الصحة وعدم اللجوء إلى البرامج الرأسية أو خلق أنظمة موازية للمتاح إلا في حالات الطوارئ، على سبيل المثال: يستعين في توضيحه للتدخل الرأسي في كبح انتشار فيروس التهاب الكبد الوبائي (فيروس سي) في مصر، حيث وجب تصميم تدخل رأسي كما هو متعارف عليه في حالات الأوبئة والطوارئ، وبمجرد الوصول للهدف، كيف يتم دمج التدخلات الرأسية مع البرامج الأفقية في الأنظمة الصحية. بالإضافة إلى أنه يمكن تخطيط وتنفيذ البرامج الرأسية في المجتمعات ذات الخصوصية الثقافية ذات تأثير على السلوكيات الصحية، مثل السل الرئوي،
 

 3) زيادة التمويل مهم لتقديم الخدمات، ولكن الأهم هو الاستخدام الرشيد والفعال للموارد المالية، في كثير من الحالات تتكدس مرافق الرعاية الصحية بما يفوق احتياجات سكان بعض المحافظات، على سبيل المثال في مدينة المنصورة يصل عدد مستشفيات الرمد إلى ثلاثة في منطقة بلا احتياج سكاني حقيقي لمثل ذلك العدد.
 

 4) مطلوب رؤية أشمل للصحة تشمل الظروف البيئية والاجتماعية المؤثرة للصحة (مثل التعليم والتغذية والمياه والمرافق الصحية)،
 

 5) استخدام مقاربة HTA) health technology assessment) لتقييم التدخلات الطبية للحد من التكلفة العشوائية التي تسببها عمليات تسليع الخدمة بخلق طلب مزيف واستخدام تكنولوجيات معقدة دون داعٍ، وترجيح استخدام التكنولوجيا الملائمة خاصة في البلدان متوسطة ومحدودة الدخل.
 

 6) زيادة وعي وإشراك المجتمع المحلي في المنظومة لضمان استمرارية التغطية الصحية الشاملة، وقت تولي مارغريت تاتشر منصب رئاسة الحكومة في المملكة المتحدة طرحت خصخصة النظام الصحي، ووجهت بمعارضة أبطلت مشروعها من قبل المواطنين وليس من قبل الأحزاب السياسية، ويرجع ذلك لإحساس المواطنين بامتلاكهم النظام الصحي واستفادتهم منه. 
 

7) في أهمية محور التنسيق والتعاون مع الجامعات، نرى أنه في مصر بمرور الوقت تزداد الفجوة في عدم التعاون بين وزارة الصحة في مصر والجامعات المصرية، حيث فوتنا فرصة تدريب الأطباء المكلفين بتشغيل التأمين الصحي الشامل بالجامعات المصرية، وبدلًا من ذلك تم التعاون مع القطاع الخاص لتدريبهم لتقديم رعاية صحية مستدامة ومتكاملة حيث نرى أن التعاون مع الجامعات في البحث والتقييم والتدريب فرصة أقوى للاستدامة ورفع الكفاءة المحلية. ففي إندونيسيا، على سبيل المثال: طلبت وزارة الصحة من منظمة الصحة العالمية استشاري لتمرير اعتماد مرافق الرعاية الصحية ونظرًا لضخامة عدد المستشفيات في إندونيسيا وصعوبة استدامة الدور الاستشاري لمثل ذلك العدد من المستشفيات، تواصلت وزارة الصحة الإندونيسية بالتنسيق مع منظمة الصحة العالمية مع استشاري خارجي لتدريب مجموعتين من جامعتي يوكياكرتا وجاكرتا حتى يشكلا مجموعة للاعتماد المحلي،
 

 8) أهمية نظام معلومات مُفصل للاستدلال على نوعية وفعالية الخدمات وللتعرف على التحديات، وخلق وتفعيل أدوات لقراءة واستخدام البيانات لتطوير السياسات.
 

 9) الاستثمار في الموارد البشرية بشكل شامل للفريق الصحي (طاقم التمريض والأطباء) لضمان جودة الخدمة، ولنا في تجربة تطوير مجال التمريض في إنجلترا خير مثال في تعزيز المستوى الأساسي من الخدمة،
 

 10) وأخيرًا مهما كانت درجة التعاون بين القطاع العام والخاص، فإن الحد الأدنى المقبول من أي حكومة هو توفير الخدمات التالية مجانًا: الخدمة الوقائية، والاستجابة لحالات الطوارئ، وخدمات صحة الأم والطفل. 


أثناء كلمته، فصَّل الدكتور إسحق المنقبادي حديثه عن المدفوعات المباشرة في سياق التغطية الصحية الشاملة، كما تعرفها منظمة الصحة العالمية وهي "المدفوعات التي يدفعها الناس من جيوبهم out of pocket spending، بما في ذلك المدفوعات اللازمة للحصول على الأدوية والرسوم والاستشارات والإجراءات، وأحيانًا المدفوعات غير الرسمية، وهي تمثل حواجز تعترض الحصول على الخدمات الصحية كما أنها تُسبب صعوبات مالية لمن يتعيّن عليهم دفعها من أجل الحصول على الخدمات التي يحتاجونها". تنقسم المصادر التمويلية للنظام الصحي وتتفاوت نسبتها في كل بلد وتنحصر في: الموازنة العامة للدولة أو الضرائب، التأمين الصحي (اجتماعي/خاص)، المدفوعات المباشرة، الهبات أو التبرعات (محلية أو دولية).

على سبيل المثال النظام الصحي في إنجلترا: يتم تمويله من الآتي: 85% من الموازنة العامة للدولة و15% من التأمين الصحي الخاص. أما بالنسبة للحال في مصر: 73% مدفوعات مباشرة، 1% تبرعات وهبات، 26% من الموازنة العامة للدولة والتأمين الصحي. وبشكل عام فإن معايير الأهلية للحصول على الخدمات التأمينية، هي المواطنة ودفع الاشتراكات. أما في حالة اعتماد النظام الصحي على المدفوعات المباشرة، ترتبط مدى إتاحة الخدمات الصحية للمواطنين على قدرتهم الشرائية وهو الحال في مصر، فاعتماد النظام الصحي على المدفوعات المباشرة يزيد من نسب الفقر الحالية ويخلخل من كفاءة النظام الصحي ويعرقل وصول المواطنين إليه، ويدفع العديد من الأسر إلى الافتقار.

في إقليم شرق المتوسط، نسب المصادر التمويلية للنظم الصحية تختلف من بلد لأخرى، يوجد ثلاثة مجموعات: 1) دول مجلس التعاون الخليجي (موازنتها ضخمة والتمويل من الموازنة العامة للدولة يتخطى 75% وتصل المدفوعات المباشرة إلى 25% ويصل متوسط التغطية الصحية للفرد ما يعادل 900 دولار أمريكي، أما بالنسبة للمجموعة الثانية، يصل متوسط التغطية الصحية للفرد في هذه المجموعة إلى 200 دولار أمريكي. ويصل متوسط التغطية الصحية للفرد في المجموعة الثالثة إلى ما يعادل 40 دولارًا أمريكيًّا. حسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.

تزايد الاتجاه للإنفاق المباشر منذ منتصف الثمانينيات في مصر، كلما تقلصت الموازنة العامة زاد الإنفاق المباشر، وبحسب الحسابات القومية للصحة في مصر: فإن المخصصات العامة للإنفاق الصحي في (1994-1995) مثلت 46% وتقلصت إلى 31% في (2001-2002)، في حين مثلت الموارد الخاصة (1994-1995) 51% من الإنفاق الصحي وصعدت إلى 68% في (2001-2002). 

بتفحص الحساب الختامي لميزانيات وزارة الصحة في الفترة (2001-2007)، الميزانية المخصصة كانت 3،6% من الموازنة العامة للدولة والإنفاق الفعلي في (2001-2002) وصل 3،9% من الموازنة العامة. في الفترة التالية (2002-2003) تم تخصيص 4% من الموازنة العامة للإنفاق الصحي وأُنفق بالفعل 3،7%. يليها ( 2003-2004) تم تخصيص 3،7% من الموازنة العامة للصحة وتم إنفاق المخصصات بالفعل. ومن هنا تقلص الإنفاق على الصحة من الموازنة العامة ليصل الى 2،5 % فقط من إجمالي الإنفاق الوطني. ومعه ارتفعت المدفوعات المباشرة.

تفتقد إستراتيجية مصر 2030 إلى آليات واضحة ومحددة للمراجعة والتقييم والمتابعة. ففي غياب المتابعة أصبح من الصعب تدارك تحديد المخصصات الصحية للمواطن حيث تتسم بعدم المرونة قياسًا بالقدرة الشرائية للعملة المحلية purchasing power parity وعوامل التضخم الاقتصادي. وبرغم أنه كان من المخطط تخصيص نصيب الفرد من الخدمات الصحية بقيمة 300 دولار أمريكي بحلول عام 2020 في المرحلة الأولى من تنفيذ الإستراتيجية، على أن يصل نصيبه إلى 600 دولار أمريكي بحلول عام 2030، فإن موازنة قطاع الصحة (2019-2020) لم تتعدَ 73 مليار جنيه مصري. كما أن أحد فجوات التنفيذ هي الاستثمار الصحي الحالي الذي يتم  بناءً على خريطة المرافق الصحية وليس على أساس احتياجات السكان، بجانب أن حجم الاستثمار في الصحة لا يتناسب مع تزايد السكان. 


في الخلاصة،

شارك الحضور تساؤلاتهم عن الخطوات التالية بعد التعرف على بعض التحديات التي نواجهها كخبراء ومواطنين في متابعة تحديثات وتطورات النظام الصحي. كما أن إحدى أهم العراقيل التي حددناها أثناء المناقشة المفتوحة، كان غياب آليات الحوكمة الرشيدة: الشفافية وإتاحة المعلومات الدقيقة، لتسهيل التقييم والمحاسبة الرسمية والشعبية، وتنظيم الشراكات بين القطاع العام والقطاع الخاص لضمان إتاحة الخدمات للجميع دون تفرقة ودون تمييز. على أن تقتصر خدمات التأمين الصحي الخاص على الخدمات التكميلية فقط، وكذلك التمثيل العادل للمواطنين بما يمكن من تقليل الهدر في القطاع الصحي الذي يصل إلى نسب عالية للغاية قد تصل إلى 20- 40% وفق تقدير منظمة الصحة العالمية.

وبالحديث عن الفرص الحقيقية في تخطي بعضًا من تلك التحديات، بدا "النمو الاقتصادي" إحدى الدروب البديهية في الخروج من مأزق الرؤية وصعوبة التنفيذ. ومع أننا نشهد نموًّا اقتصاديًّا في مصر، فإنه لا يزال يفتقد العدالة في توزيع عوائده، فأغلبه قائم على صناعات ضارة بالصحة بالأساس، مثل الأسمنت والبورسلين. ولم نغفل ضرورة تعديل النظم الضريبية وإدخال الضرائب التصاعدية وتفعيلها لإرساء مبادئ العدالة الاجتماعية. وألحت الحاجة إلى منظومة معلوماتية مُلمة لبيانات غرضها لا ينحصر في تقديم التقارير ولكن يتسع ليشمل قاعدة تُبنى على أساسها القرارات والسياسات وتحديد الأولويات وأن تكون بيانات تلك المنظومة متاحة للجميع، ويتم نشرها بشكل دوري، وأخيرًا، تطرقنا إلى أهمية إنشاء مجلس أعلى للصحة لإرساء عدم تضارب المصالح ولضمان الشفافية والتشاركية في صنع القرار ولتطوير مستوى الجودة وفاعلية تخصيص المخصصات المالية.

حضر المائدة المستديرة:

 الدكتور علاء غنام - المبادرة المصرية للحقوق الشخصية

الدكتور ناجي شفيق - خبير صحة عامة 

الدكتور إسحق المنقبادي - خبير اقتصاديات الصحة

الباحثة نانا أبو السعود - المبادرة المصرية للحقوق الشخصية

الباحث أحمد عزب - المبادرة المصرية للحقوق الشخصية

الباحث عبد الحميد مكاوي - المبادرة المصرية للحقوق الشخصية

الأستاذة هبة راشد - مؤسسة مرسال للأعمال الخيرية