الدستور يحكم ... أحيانًا

21 يناير 2014

المحكمة الدستورية وقانون الطوارئ وإهانة العدالة

هذه قصة، تبين كيف تدار الدولة المصرية، وكم هي أشبه ـ في إدارتها ـ بال"عزب" لا  الدول، وكيف أن القائمين على شئون الحكم فيها، ينتهجون أسلوبًا شبيهًا بأساليب أفراد العصابات، لا رجال الدول.

تبدأ أحداث القصة في إبريل من عام 1993، عندما أُودِع قلم كتاب المحكمة الدستورية، الطعن رقم 17 لسنة 15 قضائية، الذي يطالب بالنظر في مدى دستورية البند الأول، من المادة الثالثة بقانون الطوارئ، وهو البند المتعلق بحق رئيس الجمهورية في وضع قيود على حرية الأشخاص، في الحركة والتنقل والاجتماع، وما يعرف بحظر التجوال، وكذا حقه في إصدار أوامر بالقبض على المشتبه فيهم، والخطرين على الأمن والنظام العام، واعتقالهم، وحقه في الترخيص بتفتيش الأشخاص والأماكن، بما يشتمل  على إنشاء نقاط التفتيش، دون التقيد بأحكام قانون الإجراءات الجنائية.

طالب عديدون ومنهم منظمات حقوق الإنسان، بضرورة أن تُصدر المحكمة الدستورية حكمها في هذا النص، على وجه السرعة نظرًا لارتباطه بحقوق دستورية عدة، إلا أن المحكمة الدستورية لم تبالِ لما يحدث ولم تهتم به وتكترث، وظل هذا الطعن فوق أحد رفوف غرف المحكمة، وتراكم عليه غبار السنين، لم يقترب منه أحد، وبليت أوراقه عامًا بعد عام.

الطاعن كان طفلًا، لا يتجاوز عمره ـ في الأرجح ـ خمسة عشر عامًا، وقت صدور قرارٍ من وزير الداخلية، باعتقاله وتفتيش مسكنه، وإحالته لمحكمة الطفل التي صرحت لمحاميه بإقامة الطعن أمام المحكمة الدستورية. كبر الطفل وأصبح في العقد الرابع من عمره. خُلع مبارك وجاء المجلس العسكري، ثم جاء الرئيس المنتخب محمد مرسي، الذي كان في خصومة معلنة ومتبادلة مع القضاء، فحاول كل من الخصمين أن يفرض سيطرته على الآخر  مستعرضًا قدرته وقوته.

وقبيل الثلاثين من يونيو عام 2013، ذلك التاريخ الذي دُعي فيه للخروج  بمظاهرات ضخمة لإسقاط الرئيس محمد مرسي، تذكر أحد أعضاء المحكمة الدستورية، الطعنَ وأدرك أهميته، وكيف أن هذا الطعن سيسلب مرسي قبل هذا التاريخ الهام، القدرةَ على القبض على المواطنين واعتقالهم وتفتيشهم وتفتيش منازلهم.

وبعد أكثر من عشرين عامًا، من إيداع الطعن قلم كتاب المحكمة، وفي صباح يوم الأحد، الموافق الثاني من يونيو من عام 2013، اجتمع أعضاء هيئة المحكمة الدستورية وأحضروا ملف الطعن - محاولين في البداية تنظيف الملف من التراب الكثيف الذي تراكم عليه عبر السنين - وكان التعامل مع الملف بحرص شديد، فقد اصفرت أوراقه وتآكلت أطرافها وأصبحت هشة بحكم الزمن، وصدر حكم قوي وحاسم وداعم لحقوق الإنسان وحرياته، وقضت المحكمة بعدم دستورية ما تضمنه البند الأول من المادة الثالثة من قانون الطوارئ، من صلاحية لرئيس الجمهورية في القبض والاعتقال وتفتيش الأشخاص والأماكن، ونزع من منصب رئيس الجمهورية - عن حق - سلطة جائرة كانت لديه، سلطة ليس لها أساس في الدستور، استغلها مبارك وحاشيته لعشرات السنين، تحت بصر المحكمة الدستورية، دون أن تتدخل أو تعترض.

بنى قضاء المحكمة الدستورية على أن قانون الطوارئ ـ رغم أهميته ـ ليس إلا قانونًا "يتعين أن يتقيد بالضوابط المقررة للعمل التشريعي، وأهمها عدم مخالفة نصوص الدستور الأخرى"، وأكدت المحكمة على أنه: "لا يجوز أن يتخذ قانون الطوارئ الذي رخص به الدستور ذريعة لإهدار أحكام الدستور ومخالفتها، إذ إن قانون الطوارئ يظل على طبيعته كعمل تشريعي، يتعين أن يلتزم بأحكام الدستور كافة، وفي مقدمتها صون حقوق وحريات المواطنين". والدستور ينص على أن الحرية الشخصية حق طبيعي فهي مصونة لا تمس. وفيما عدا حالة التلبس لا يجوز القبض على أحد أو تفتيشه أو حبسه أو تقييد حريته، بأي قيد أو منعه من التنقل، إلا بأمرٍ يستلزمه التحقيق، أو لصيانة أمن المجتمع، ويصدر هذا الأمر من القاضي المختص، أو النيابة العامة"، ولذا فلا سلطة لرئيس الجمهورية أو من ينيبه - حتى مع إعلان حالة الطوارئ- في القبض أو التفتيش، ويجب عليه أو من ينيبه، حال مباشرته لاختصاصاته المنصوص عليها، في قانون الطوارئ أن: "لا يخرج عن الوسائل التي تتفق وأحكام الدستور".

واستكمالًا للقصة، ففي يوم الثلاثين من يونيو لعام 2013، خرجت الجماهير بأعداد ضخمة وطالبت برحيل مرسي، وبالفعل عُزل وأصبح رئيسُ المحكمة الدستورية العليا رئيسَ الجمهورية المؤقت، بموجب بيان صادر عن القيادة العامة للقوات المسلحة، بعد الاتفاق مع بعض رموز القوى الوطنية والشباب، ونشر في الجريدة الرسمية بتاريخ 3 يوليو 2013.  وبعد أقل من شهرين من تولي رئيس المحكمة الدستورية السلطة السياسية، وإدارة شئون البلاد، وفي الرابع عشر من أغسطس، أعلن الرئيس المؤقت حالة الطوارئ، وأناب رئيس مجلس الوزراء في اختصاصه المنصوص عليه بخصوصه،  فأصدر الأخير في ذات اليوم، استنادًا إلى قانون الطوارئ، وتحديدًا نص البند الأول من المادة الثالثة، قرارًا بفرض حظر التجول، وتقييد حرية المواطنين في الحركة والتنقل، بالمخالفة الصريحة لأحكام الإعلان الدستوري الساري، الذي يؤكد في العديد من نصوصه، على أنه لا يجوز حتى مع إعلان حالة الطوارئ، تقييد حرية الأفراد في الحركة والتنقل بأي قيد - بما في ذلك حظر التجوال - دون أمر قضائي، وهي نصوص واجبة التطبيق بذاتها، دون حاجة إلى أداة تشريعية أدنى، إلا أن ذلك ليس بالأمر الهام الآن، فالوضع السياسي تغير، ومصر : "رجعت كاملة ليهم ومصر اليوم في عيد".

-      عـالماشي -

نقاط التفتيش أو ما يسمى بـ "الأكمنة"، المنتشرة على كافة الطرق ومداخل المحافظات، صدر بإنشائها كتاب من السيد وزير الداخلية، يوم 17 من أكتوبر سنة 1981، بعد إعلان حالة الطوارئ، إثرَ اغتيال الرئيس السادات، واستند القرار إلى البند الأول من المادة الثالثة من قانون الطوارئ، (يُراجع في ذلك حكم محكمة النقض في الطعن رقم 1230 لسنة 54 قضائية بتاريخ 28 من مارس 1985).

أنهيت حالة الطوارئ وظلت الأكمنة، وحُكم بعدم دستورية المادة الثالثة، وظلت نقاط التفتيش.

في الدول الحديثة قد تحدث ظروف قاهرة، تستدعي إعلان حالة الطوارئ، وتقييد حركة المواطنين ووضع نقاط تفتيش،  إلا أن هذه الدول تعمل وتحرص، على أن يكون ذلك في إطار الدستور والقانون، ووفق ضوابط وشروط، ومعايير محددة وواضحة وصارمة، وتحت إشراف ورقابة سلطة محايدة، ليس لدينا مثيل لها في مصر.