دولة "قاضي القضاة" العسكري

22 ديسمبر 2013

هل تعلم أنه وفقًا للقوانين المصرية الحالية، وبخاصة قانون القضاء العسكري، لا يمكن محاكمة سيادة "الفريق أول"، عن أي جرمٍ، أمام أي محكمة مدنية كانت أو عسكرية؟

تشكل المادة المتعلقة بالقضاء العسكري في دستور 2012، حتى بعد تعديلها في مشروع التعديلات الدستورية الأخيرة، تحولًا مهمًّا وخطرًا في تاريخ النظام القضائي والقانوني المصري. ففضلًا على سماح المادة بمحاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري بشكل واسع، وفقًا لنص دستوري، فإنها تُعدُّ تعديًا صارخًا على السلطة القضائية وولايتها واختصاصاتها وإدارتها لشئون العدالة، هذا بالإضافة إلى أنها تشكل حجرًا صُلبًا في قاعدة بناء دولة الجيش الحصينة.

الدساتير المصرية عدا دستور 2012 كانت تسمِّى الجهات القضائية، فتقول على سبيل المثال: "مجلس الدولة جهة قضائية مستقلة يختص بـ ..."، وكانت تشير إلى القضاء العسكري وتقول: "وينظم القانون القضاء العسكري"، وهذا أمر بديهي منطقي، فلم يكن أحد يتجرأ ويسمي في الدستور أحد أفرع القوات المسلحة، أو أحد إداراتها بـ"جهة قضائية مستقلة"، كما فعل دستور 2012، ومشروع تعديله، الذي سعى وبقوة إلى وضع كل الضمانات الممكنة لاستقلال القوات المسلحة وحصانتها أمام سلطة المجتمع، وضمن تلك الضمانات، إنشاء ما يمكننا تسميته بـ"السلطة القضائية العسكرية"، والتي لها سلطان على الكافة، ولا سلطان عليها سوى القائد الأعلى والقائد العام للقوات المسلحة وقادة المناطق العسكرية.

المادة 204 من مشروع تعديل الدستور، فوق إنشائها سلطة قضائية عسكرية موازية، فإنها تتعدى على السلطة القضائية من ناحيتين، الناحية الأولى: أنها وفرت الحماية والحصانة الدستورية لأفراد وضباط القوات المسلحة، من المساءلة أمام السلطة القضائية، والثانية: أنها نازعت القضاء اختصاصه الأصيل في إدارة شئون العدالة داخل المجتمع.

أما فيما يخص النقطة الأولى، فقد نصت المادة على أن القضاء العسكري: "يختص دون غيره بالفصل في كافة الجرائم المتعلقة بالقوات المسلحة وضباطها وأفرادها"، وهذا ما سعى إليه مشروع الدستور، وهو عدم جواز محاكمة عسكري أمام السلطة القضائية، حتى لو ارتكب جريمة من غير الجرائم العسكرية وضد مدني. فالقوات المسلحة تعمل على حماية أفرادها من سلطة المجتمع، ومن الخضوع للقضاء ولوكيل الهيئة الاجتماعية سيادة النائب العام وللعدالة، فالقوات المسلحة وفقًا لهذا النص يمكنها أن تقول لهم: "سلطة قضائية على نفسكم!". ولا أحد يعرف ما السبب، هل هو الغرور والنظرة المتعالية للذات، أم أنه لانعدام الثقة في ولاء وانتماء ووطنية أعضاء السلطة القضائية، أم شك في قدرة وكفاءة ونزاهة وعدل القضاة المدنيون؟

لا عجب، أن نجد المحكمة العسكرية تنظر في شجار زوجين لأن الزوج ضابط بالجيش-هذه قضية حقيقية وليست مثالًا متخيلًا- فلم يغِب ولن يغيب عن ذاكرتنا ما حدث أمام مبنى ماسبيرو، وكيف لعب وكيل الهيئة الاجتماعية ـ سيادة النائب العام وبسبب قانون القضاء العسكري ـ دورًا متخاذلًا عاجزًا، ولم يقدر على النطق ببنت شفة أمام عمليات قتل أفرادٍ، من المفترض أنهم خاضعون لولايته القضائية، ولم تقم السلطة القضائية بدورها الذي من أجله أنشئت، فلم تحمِ أو تنصف مواطنين من تعدٍ واضح من السلطة التنفيذية.

إن الأفراد ليسوا فقط خاضعين للسلطة القضائية عندما يخطئون أو يذنبون، بل هي ذاتها مسئولة عن توفير الحماية لهم من أي عدوان أيًّا ما كان مصدره، وإن لم تكن هذه السلطة قادرة على فعل ذلك فلا قيمة لها. فالسلطة القضائية ليست أداة عقاب، بل هي أداة عدل وإنصاف وحماية قبل ذلك، وأي أمر مهما كان  يحول بين تلك السلطة والسعي إلى تحقيق غاية وجودها ووظيفتها الاجتماعية، يكون إهدارًا لها ولقيمتها ودورها، ولا تكون سلطةً بالمعنى الحقيقي للكلمة، فإما أن تكون سلطةً قضائية على الكافة أو لا تكون.

وفيما يخص عدم خضوع سيادة "الفريق أول" مطلقًا للمحاكمة عن أي جرم، فذلك لأنه أولًا: ضابط بالقوات المسلحة، فلا يمكن محاكمته إلا أمام محكمة عسكرية، ثانيًا: هو أعلى رتبة في القوات المسلحة، ووفقًا لنص المادة 44 من قانون القضاء العسكري: "لا يجوز محاكمة أحد العسكريين أمام محكمة، يكون رئيسها أحدثَ منه رتبة". ثالثًا: هو مَنْ يتحكم في قرار الإحالة للمحاكمة أصلًا.

إذن السلطة القضائية في مصر ليست سلطة على الكافة، بل على من لا تلمع النجوم على كتفيه، والنائب العام هو: على "إللي ملوش ضهر"، أما الذي يملك سلطتَه القضائية الخاصة فالنائب العام يعجز أمامه. فيا سيادة القاضي ـ أقول لك بعد كل هذا ـ إن لم تكن قادرًا على حمايتي وإنصافي وقت أن أكون مجنيًّا عليَّ فلا تسألني عندما أكون جانيًا.

والسؤال الذي يطرح نفسه حاليًّا، لماذا لا تنشئ الشرطة هي الأخرى جهة قضائية مستقلة تتبع وزارة الداخلية تختص دون غيرها بنظر الجرائم التي يرتكبها ضباط الشرطة وأفرادها في أثناء تأدية وظائفهم وبخاصة حالَ تعذيب المواطنين؟

لم تقف المادة 204 من مشروع تعديل الدستور عند حد غل يد القضاء، وتوفيرها الحصانةَ الدستوريةَ لضباط وأفراد القوات المسلحة من المساءلة أمام السلطة القضائية التي يقف أمامها عامة الناس حال انتهاكهم ذات القانون فحسب، بل اخترقت المادةُ المظلةَ القضائية الحامية للمواطنين، وجعلت القوات المسلحة تشارك السلطة القضائية اختصاصاتها وولايتها على المدنيين. هذا وإن كان ليس بالأمر الجديد، إلا أنه وكما كان يحدث أيامَ "مبارك"، من عمليات تفصيل الدساتير وتحصين الانتهاك عبر دسترته، فقد قامت القوات المسلحة بملء الدستور باختصاص القضاء العسكري المنصوص عليه في القانون، وجعلته اختصاصًا دستوريًّا، ولم تتنازل عن اختصاص واحد كان لديها في قانون القضاء العسكري، وبدا هذا تخوفًا من أن يأتي اليوم الذي يكون فيه البرلمان ديمقراطيًّا، له ظهير شعبي فيعدِّل قانونَ القضاء العسكري ويقلص من اختصاصاته. فوفقًا للدستور: كل مدني يرتكب أي جرم، ترى القوات المسلحة أنه تعدٍ عليها أو على شيء أو شخص أو أمر يخصها فلها أن تحاكمه بقضائها.

في الأصل يجب أن يخشى الفرد انتهاك القانون خوفًا من أن تصل إليه يد العدالة وليس لأنه سيحاكم عسكريًّا، والتخويف بالقضاء العسكري يشير إلى أن هذا القضاء ليس كباقي منظومة القضاء، وعلى المواطن أن يخاف أمرًا آخر غير العدالة.

وفي النهاية، القوات المسلحة لا تُساءل أمام السلطة القضائية، ولا تستطيع السلطة التشريعية المساس باختصاص قضاء القوات المسلحة، التي لها أن تحاكم المدنيين ومنهم أعضاء السلطة القضائية والسلطة التشريعية، إلا أنه وفقًا للقانون، يحق لأعضاء السلطتين القضائية والتشريعية قضاء فترة العقوبة في سجن مدني، وذلك إعمالًا لمبدأ الفصل بين السلطات، ولأن مصر دولة حكومتها مدنية.

...

للعلم، (القضاء العسكري تقوم على شأنه هيئة تابعة لوزارة الدفاع، وقضاته جميعهم عسكريون من رتب متفاوتة ويخضعون لكافة الأنظمة التأديبية وغيرها، المنصوص عليها في قوانين الخدمة والترقية العسكرية. ويتم تعيين القضاة العسكريين بقرار من وزير الدفاع بناءً على اقتراح مدير القضاء العسكري، ويؤدي الضباط ـ المختارون للعمل كقضاة ـ اليمين أمام نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وبحضور مدير القضاء العسكري، وأحكامهم ليست نهائية، حتى يرضى عنها الضابط المُصدق)، عفوًا فاتني أن أقول: "جهة قضائية مستقلة".