الفيروسات الكبدية وتجفيف منابع العدوى !

21 أكتوبر 2013

 

عندما صُمم برنامج إصلاح القطاع الصحي المصري، في تسعينات القرن الماضي (1997)، كان يهدف إلى مواجهة التحديات الصحية التي تحتل مقدمة الاهتمامات الحرجة، التي تمس صحة المواطنين وسلامتهم وحقهم في الحياة، بإنصاف ومساواة ! وعلى قائمة هذه الاهتمامات: الأعباء المرضية الخطيرة للفيروسات الكبدية (س،ب،أ)، التي أكدت الدراسات أن مضاعفاتها تسبب 13,7% من أسباب الوفيات في البلاد (تشمُّع وتليُّف وسرطانات وفشل كبدي) !

 تذكرت قصة قصيرة للكاتب الروسي " أنطون تشيكوف" بعنوان: "عنبر رقم6"، عن المستشفيات في روسيا، في القرن التاسع عشر ومدى بشاعة أجوائها، وما كان يحدث فيها للمرضى عندما طالعت دراسة أخرى حول الفيروسات الكبدية في مصر، أجرتها وزارة الصحة ومنظمة الصحة العالمية، تشير إلى أن 70% من أسباب العدوى بالفيروس (س) ترجع إلى ممارسات طبية غير آمنة داخل المستشفيات (مثل الحقن غير الآمن، ونقل الدم الملوث، واستخدام أجهزة طبية تحمل العدوى)، إلى جانب عوامل الخطر المجتمعية الأخرى كالحلاقة والوشم والطهارة، والعوامل البيئية المتدهورة والتلوث، والعوامل العامة كالفقر ـ فهو مرض الفقراء ـ والأمية والتكدس السكاني ! والأهم من كل ذلك ضعف النظام الصحي وهشاشة أدائه، ما جعله المرض الأول في مصر، وعالميًّا في نسب العدوى الصريحة والكامنة منه (10% عدوى صريحة ، 12% عدوى كامنة)، كما أنه مرض صامت قد يمتد لسنوات طوال دون أن ينبه صاحبه أنه يحمله !

شعرت بالحزن لهذا العبء المرضي الخطير الذي يجب أن يكون دور الدولة فيه أساسيًّا وحاسمًا، في الوقاية والعلاج وفي توفير المعلومات، وقاعدة البيانات الدقيقة عن مدى وحجم انتشاره وتأثيره الاقتصادي والصحي، وفي تفعيل برامج قوية لمكافحة العدوى ضده في المجتمع، وفي المستشفيات، في إطار الخطة القومية لإصلاح المنظومة الصحية ككل، وفي إطار البرنامج القومي لمكافحة الفيروسات الكبدية من خلال آلياتٍ، ورسالةٍ صحية واقعية يتم فيها مشاركة المجتمع المدني ومنظماته، توزع فيها الأدوار حسب الوزن النسبي للأطراف المختلفة في المجتمع.

 إن المعدلات الكارثية لهذا المرض الصامت هي حوالي 15مليون مصاب (7% من العبء العالمي له في مصر)، وهذا ما يجب أن يدفعنا لوضعه على قمة الاهتمامات من الدولة صحيًّا في محاور الوقاية لمنع الإصابة، ومحاور العلاج كحق شامل ومعياري بتوفير الدواء وإتاحته في كل منطقة من الوطن بلا تمييز، وبنفس الجودة، وفي محاور المشاركة المجتمعية بتفعيل دور منظمات المجتمع في وضع السياسات ومراقبة تنفيذها، والتخلص من تبني النظرة البالية في الأجهزة البيروقراطية التي تُحمِّل المواطن دائمًا مسئولية العدوى به وتتجاهل تمامًا دورها الأهم في مقاومة العدوى، بتوفير الدواء ووضع السياسات الفعالة، وفي مقاومة دور الاحتكارات الدوائية عالميًّا والتكنولوجيا المتمثلة في صنَّاع وتجَّار الأجهزة، وفي مثل الاحتكارات التي تلعب دورًا سلبيًّا في الاستفادة والربح من انتشار المرض.

 إن العلاج السليم في مواجهة الفيروسات الكبدية هو جزء محوري في خطة وسياسات الوقاية الشاملة، والعلاج حق لكل مواطن في الدواء اللازم، ما يحتم توفيره وتوفير الموارد والخبرات الكافية لصناعته محليًّا وعدم الخضوع لإرادة الاحتكار ات الدوائية العالمية، استلهامًا لما صنعته الدول الأخرى التي تعاني من وبائيات مماثلة كالهند وجنوب إفريقيا بصناعة دوائها ذاتيًّا بإرادة سياسية وخطط واعية ومبدعة.

إن هذه الفيروسات إذا كانت تسمى مرض الفقراء في بعض الأحيان، فإنه يجب وضع سياسات اقتصادية واجتماعية وصحية تنحاز إلى الفقراء والفئات الأكثر عرضة للعدوى بها، كما أن غياب الأطر التشريعية والقانونية التي تدعم حقوق المرضى، والمساءلة الطبية، والحماية الصحية للمواطنين عبر تغطية صحية شاملة لكل مواطن، دون تمييز، وبغض النظر عن قدرته على دفع تكاليف الخدمة، تحتم على الدولة السعي كحقٍ لوضع هذه التشريعات الهامة وجعلها موضع تنفيذ تدريجيًّا، والنص عليها صراحةً في دستور البلاد الجديد، هذا إذا أردنا التحرك في الاتجاه السليم نحو القضاء والتخلص من كارثة صحية تسمى الفيروسات الكبدية وتجفيف منابعها !