تحسين تغذية التلاميذ لا يكون بالإضرار بتغذية أسرهم…. مساهمة جندرية في الجدل حول رغيف الخبز المدعوم

9 أغسطس 2021

أثارت مداخلة رئيس الجمهورية أثناء افتتاح مدينة "سايلو فودز"، يوم 3 أغسطس 2021، الكثير من ردود الأفعال النقدية تجاه تصريحه بضرورة زيادة سعر الخبز في برنامج الدعم. ركزت أغلب ردود الفعل الناقدة على العلاقة الواضحة ما بين رفع سعر الخبز المدعوم والزيادة المتوقعة في مؤشرات الفقر، أو الإخلال مباشرة بالحق في الغذاء. ولكن مازالت هناك جوانب أخرى لهذه الإجراءات المقترحة تحتاج للمزيد من الاستكشاف والبحث وهي المتعلقة بالعلاقات المركبة، ما بين أنماط التغذية على مستوى الأسرة ككل وصحة النساء، خصوصًا الحوامل منهن، والأطفال في مرحلة الطفولة المبكرة. 

فبينما نثمن الاهتمام الحكومي بملف التغذية المدرسية - خصوصًا بعد حوادث متفرقة ومتكررة لتسمم الطلبة والطالبات وواقع سوء التغذية لأطفال المدارس - نشدد على أن تجاهل هذه العلاقات المركبة برفع سعر المصدر الأساسي لغذاء الأفراد والأسر في ريف مصر وحضرها  لتمويل وجبة غير منتظمة توزع في المدارس سيكون له أثر عكسي على صحة أغلب المصريين، بمن فيهم الأطفال. 

وبالتالي، فإذا كانت النية منعقدة بالفعل لمواجهة سوء التغذية للأطفال في مرحلة الطفولة المبكرة، فنحن في حاجة لمقاربة اجتماعية شاملة تضع النساء والأسرة في قلب عملها لا مجرد تحويل بنود الإنفاق الاجتماعي من هذا الباب لذاك كما لو كانت المشكلة محض مشكلة تمويل. 

 

هل يحقق فصل غذاء الأطفال في سن المدرسة عن غذاء باقي الأسرة المردود المنشود؟

إن برامج التغذية المدرسية تعد وسيلة ناجحة لتحسين صحة الأطفال، وخفض معدلات الفقر وتقليل التسرب من التعليم الأساسي، كما وضحت المبادرة المصرية سابقًا. ولكن ما يثير القلق في المقترح الحالي، هو أن يتم التوسع في الوجبات المدرسية عبر رفع أسعار الخبز المدعم، وهو الدعم الذي لعب لسنوات طويلة دورًا أساسيًا في حماية الكثير من الأسر المصرية من الجوع أو النزول تحت خط الفقر. 

فكان من ضمن تعليلات زيادة سعر الخبز المدعم لتقديم الوجبة المدرسية غير المنتظمة هو أن "نبني الإنسان المصري في الجمهورية الجديدة"، ومن المهم الإشارة إلى أن باقي أفراد الأسرة يحق لهم أن يكونوا شركاء في هذا البناء الطموح لصحة المصريين وأن يستفيدوا منه، وألا تسفر هذه التعديلات الهيكلية عن إعادة توزيع الغذاء والتغذية داخل الأسرة الواحدة على نحو متفاوت وغير عادل. فعلى سبيل المثال يعاني ٢٥٪ من النساء في سن الإنجاب (١٥-٤٩ سنة) من الأنيميا بحسب بيانات المسح الديمغرافي الصحي لعام  2014. 

وترجع منظمة الصحة العالمية سوء التغذية هذا إلى النقص أو الزيادة أو عدم التوازن في مدخول الطاقة و/أو المغذيات لدى الشخص. ويشمل نقص التغذية، الهزال (انخفاض الوزن بالنسبة إلى الطول)، والتقزم (قصر القامة بالنسبة إلى العمر)، ونقص الوزن (انخفاض الوزن بالنسبة إلى العمر)؛ سوء التغذية المتعلق بالمغذيات الدقيقة، الذي يشمل عوز المغذيات الدقيقة (نقص الفيتامينات والمعادن المهمة) أو فرط المغذيات الدقيقة؛ فرط الوزن والسمنة والأمراض غير السارية المرتبطة بالنظام الغذائي (مثل أمراض القلب والسكتة الدماغية وداء السكري وبعض السرطانات).

وبينما أشار رئيس الجمهورية إلى صعوبة تدارك تصحيح بناء الجسم الهزيل، في إشارة إلى صحة الراشدين، وأن البناء السليم للجسم يحدث أثناء مرحلة الطفولة، إلا أن ذلك لا ينفي حق الفئة المشار إليها من النساء في الصحة كما يقره الدستور المصري ليحميهن من الجوع والإفقار، ضمن غيرهن، كما أن التنبه إلى حق النساء في الصحة سينعكس إيجابيًا بشكل تلقائي على صحة أطفالهن.    

ففي يونيو الماضي، حددت منظمة الصحة العالمية فئات النساء، والمراهقين/المراهقات، والرضع، كأكثر الفئات عرضة لسوء التغذية، كما أدرجت بعض المقترحات من أجل تفادي سوء التغذية كان من ضمنها، تحقيق المستوى الأمثل من التغذية في مراحل الحياة المبكرة - أول 1000 يوم - والتي تمتد من بداية الحمل وحتى بلوغ الطفل عامه الثاني، وهي الفترة التي لا تتصدى لها برامج التغذية المدرسية. وتشير البيانات أن الفترة السابقة لسن المدرسة في حياة الأطفال تعد فترة محورية في إصابتهم بأمراض مثل الأنيميا، وهي الفترة التي لا تغطيها أي برامج مدرسية. ولمواجهة هذا التهديد وجب استهداف جودة تغذية الأسرة ككل. فتشير بيانات المسح الديمغرافي الصحي لعام 2014 إلى أن أكثر من طفل من بين كل أربعة أطفال صغار (من سن ٦ -٥٩ شهرًا)  يعاني من درجة ما من الأنيميا. ويزداد احتمال إصابة الأطفال في المرحلة العمرية 6-59 شهرًا في الريف بالأنيميا عن الأطفال في الحضر (29% و 23% بالترتيب). بينما يزداد إحتمال إصابة الأطفال في محافظات الحدود الثلاث، وريف الوجه القبلي للتعرض للأنيميا من الأطفال في المناطق الأخرى (45% و 30% بالترتيب). ووصلت معدلات التقزم بين الأطفال دون الخامسة إلى ٢١٪ في ٢٠١٤، بينما وصلت معدلات نحافة الأطفال ونقص الوزن إلى ٨ و٦٪ على الترتيب. وتؤثر الأنيميا على ٢٧٫٢٪ من الأطفال دون سن الخامسة. وقد عبرت الحكومة المصرية في تقريرها الطوعي عن عزمها لخفض معدلات التقزم لتصل إلى  12.2% بحلول عام 2030، وهي حاليًا تقف عند 17.5% بالنسبة للأطفال دون الخامسة. 

وبالتوازي  تعاني حوالي سيدة من كل أربع سيدات، ممن سبق لهن الزواج، من الأنيميا. ويعد فقر الدم أثناء الحمل أحد الأسباب الرئيسية لفقر الدم عند الرضع والأطفال، ومن ثم يستحيل محو الفقر الجيلي بوجبة مدرسية تمول عبر رفع سعر الخبز المدعم الذي تعتمد عليه النساء في تغذيتهن، وتغطي 25% من احتياجات الطلبة والطالبات اليومية فقط، وفقًا لتصريحات وزيرة الصحة والسكان. وبينما يهدف برنامج <<أول 1000 يوم>> للوصول إلى أكثر من 41 ألف إمرأة حامل من أجل الترويج إلى تغذية صحية، إلا أن الهدف محدود مقارنة بإجمالي عدد الحوامل في مصر، بالإضافة إلى عدم توفير هذا البرنامج لعناصر الغذاء المروج لها لغير القادرات ماديًا.  

وحتى "نبني جيل من الأصحاء" من الضروري الالتفات إلى جذور المشكلة، بداية بأن وقف الرضاعة مبكرًا يساهم في تعرض الأطفال إلى السمنة.  ولذلك يجب الالتفات للأسباب التي تعوق الأمهات من استكمال الرضاعة الطبيعية ودراستها وحلها. 

نقص المعرفة بالتغذية السليمة يطال الجميع، فهل تطال توعية الدولة الجميع؟

تم عرض أهداف برنامج التغذية المدرسية في سياق ضمان إنتاجية أطفال اليوم في المستقبل ورفع العبء عن النظام الصحي في المستقبل. وكشفت النتائج الإجمالية لدراسة عينة من 25 مليون طالب في ثلاثة أعوام متتالية عن تعايش أكثر من 3 مليون طالب وطالبة مع السمنة (تزيد نسبتهم في محافظات الوجه البحري)، وعن تعايش أكثر من 8 مليون منهم مع الانيميا (تزيد نسبتهم في محافظات الوجه القبلي)، وتعايش ما يقرب من 1.3 مليون منهم  مع التقزم (مع زيادة النسبة في الوجه القبلي والمحافظات الحدودية). ومن الجدير بالذكر إشارة وزيرة الصحة والسكان إلى انتشار السمنة بين البالغين والأطفال في محافظات الوجه البحري كذلك. تطرح هذه البيانات سؤال مشروع حول كيفية المضي قدمًا بتحويل الدعم للوجبة المدرسية ودفع الأسر للفقر بزيادة سعر الخبز المدعم في ظل غياب المعرفة العامة بالتغذية السليمة بين المجموعات السكانية المختلفة بغض النظر عن مستويات دخولهم؟ فيتضمن مثلًا تقرير أطلقته وزارة التضامن الاجتماعي بالتعاون مع الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء ويونيسف بعنوان "فهم الأبعاد المتعددة لفقر الأطفال"، إقرار بعدم وجود اختلافات تذكر بالنسبة لسوء التغذية وبالأخص السمنة والتقزم عبر التبايانات المادية والجغرافية بين فئات المجتمع، أي أن وفرة الغذاء لا يعد مرادفًا   للتغذية سليمة.

كذلك من ضمن الأسباب وراء سوء التغذية في مصر التي أعلنتها اليونيسف أيضًا ضعف الحصول على نظام غذائي متوازن لدى الشرائح الأفقر من المجتمع (أو بعبارة أخرى: انعدام الأمن الغذائي)، بالإضافة إلى العادات الغذائية ونمط الحياة السيء ونقص الوعي الغذائي بين المجموعات المختلفة من السكان حول الغذاء المتاح. 

وطالما أن هناك اهتمام رسمي بمسألة تغذية أطفال المدارس، فهناك فرصة على المستوى الوطني لترجمة كل التوصيات الخاصة بالتغذية السليمة من خلال تصميم تدخل مجتمعي يطرح حلول واقعية ضمن حملات توعوية. جاءت الرسائل التوعوية من <<حملة 100 مليون صحة>>  عن التغذية السليمة بطريقة سهلة مستساغة، إلا أنه لازال ينقصها إضافة طابع اقتصادي منزلي يمكّن  جميع المتلقين من تطبيق هذه الرسائل. فبجانب التوعية بمكونات التغذية السليمة، يمكن عرض أمثلة لوجبات سليمة وصحية في متناول كل الأسر بميزانيات محدودة رخيصة وغير تعجيزية يمكن للأسر الفقيرة تطبيقها، ولتكن البداية بعرض أمثلة لوجبات صحية متكاملة تصلح لميزانية أسرة من ٥ أفراد بدخل ٢٤٠٠ وهو الحد الأدنى للأجور. أما بالنسبة للسمنة وممارسة الرياضة، فمن الضروري التعامل بواقعية مع كيفية قضاء النساء والرجال والأطفال وقت فراغهن/م في ظل محدودية المساحات العامة لممارسة الرياضة دون تكلفة أو تعرض للتحرش الجنسي ولمضايقات المارة في الشارع، وعدم القدرة على دفع اشتراكات الصالات الرياضة أو الأندية، وعدم توفر مساحات مجهزة في مراكز الشباب بشكل كافي في كل أنحاء الجمهورية.  فكل الحملات أو التوجيهات الرسمية والإعلانات المصاحبة لها والتي تم عرضها في السابق، تروج لأسلوب حياة صحي، وتستهدف مجتمعات مسورة وفئات مجتمعية قادرة على تلبية النداء في أماكن سكنهم المرفهة أو في نواد خاصة. وهنا نشير، مرة أخرى، لحق الفئات الأكثر عددًا وإحتياجًا وتأثرًا بزيادة سعر الخبز المدعم في حياة صحية. فهم أيضًا أصحاب مكان في الجمهورية الجديدة.

 

mmbcNScVe-z043T7baDtLUSby_XEJv1bczeJJUKxSlugza29K2tTvMgNxEaopzbdsh0vV3WXJpmPCVEL1-krm3P-CABkQSAJvWCHFmoH0QC1pk_jMg1m3uhwfefk0fBXwaSoZs3H

حملة 100 مليون صحة فيديو بعنوان "الوجبة الغذائية المتوازنة التي تدعم مناعة طفلك" (فبراير 2021)

o6p1Z4NZuMQ0Zelw1ke4gBe6MiQ0Ghil36jA-Mj044yXAtEGBklZtX4kcLqTxIB6l_7AR8OnzwU5qG-ZNatFCFgMHBt1KOA7gwYwx-w4l19lWbYIGj2mMBVefc8b544EZzrdyxTt

حملة 100 مليون صحة: فيديو بعنوان "الأكل الصحي المتوازن يحمينا من أمراض كتير وهيخلينا نعيش ب 100 مليون صحة" (17 يوليو 2019

خاتمة

كل هذه المقترحات ترمي إلى ضرورة التعامل الحذر عند التدخل لتغيير نمط حياة غير مثالي  ابتدعه المصريون عبر عقود لمواجهة الجوع والفقر، ويرتكز على الاستهلاك المفرط للخبز فلا مجال للتدخل هنا دون توفير حلول أكثر صحية وإتاحتها لكل المتأثرين بحيث لا تزيد من صراعهم للبقاء. 

وبالرغم من إشادتنا بالمجهودات الحكومية التي تهدف إلى تحسين جودة المعيشة لطلبة وطالبات المدارس، إلا أننا نكرر أن ذلك لا يجب أن يأتي على حساب دعم الخبز الذي يوفر حد أدنى من التغطية لكثير من المصريين، ونشدد على أن هذا التوجه يستدعي مرحلة انتقالية  تشمل باقي أفراد الأسرة، من حيث رفع الوعي بالتغذية السليمة وتوفير فرص حقيقية يتمكن من خلالها جميع أطياف المصريون التمتع بالحياة وبصحة أفضل. لا شك أن الاستهلاك المفرط للخبز غير صحي، ولكن الأفوكادو والبروكلي أيضًا ليسا في متناول يد الجميع،  وعلى وزارة الصحة والسكان من خلال حملة <<حملة 100 مليون صحة>> تقديم نماذج لوجبات غذائية تكفي أسرة من 5 أفراد تعيش على الحد الأدنى للأجر 2400 جنيه مصري، مصاحبة لرسائل توعوية تشجع الجمهور على جعل التغذية المتوازنة أسلوب حياة. وتلفت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية إلى ضرورة ضم الأطفال دون الخامسة والنساء الحوامل إلى الفئات المستهدفة بشكل خاص ببرامج التغذية، لكونهم من الأكثر عرضة لسوء التغذية تماشيًا مع مقترحات منظمة الصحة العالمية.     

وأخيرًا، نذكر بأن الإقدام على زيادة سعر الخبز المدعم في ظل جائحة لم يسيطر العالم عليها بعد، سيكون له آثار كارثية على المدى القريب والبعيد تزيد من خطر وقوع الكثير من المصريين تحت خط الفقر، وعم الذين مثل لهم الخبز المدعم مصدر -وإن كان غير صحي- للحماية من الفقر والجوع.

هوامش:

1) المسح الديمغرافي الصحي 2014 ص 180

2) المسح الديمغرافي الصحي 2014 ص 157

3) وكما وضحت مصر في تقريرها الطوعي الثالث، على أن الهدف من برنامج تكافل (برنامج التحويل النقدي المشروط) والذي يوفر معاش شهري للأسر الفقيرة المشتركة فيه، بشرط استمرارية أطفالهم في المدارس وعرضهم على الكشف الصحي بشكل دوري وحصولهم على التطعيمات اللازمة ومراقبة نمو الأطفال تحت الخامسة. استدركت الحكومة المصرية في التقرير نفسه بإستيعابها لعدم واقعية حصر قراءات الفقر في الدخول.