من أجل مصالحة حقيقية: لا تغفلوا المحاسبة

31 يوليو 2013

نص بيان القوات المسلحة الذي تلاه وزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسي يوم 3 يوليو 2013، على تشكيل لجنة عليا للمصالحة الوطنية من شخصيات تتمتع بمصداقية وقبول لدى جميع النخب الوطنية وتمثل مختلف التوجهات. وإلى الآن لم تتضح ما هي معايير هذه المصالحة وكيفية إتمامها في ظل تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة الدكتور حازم الببلاوي التي أنشأت بدورها وزارة جديدة تسمى وزارة العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية برئاسة المستشار محمد أمين المهدي.

وفي ظل هذا الغموض في مهام لجنة المصالحة ودور وزارة العدالة الانتقالية والمصالحة، هناك مخاوف من تمرير مصالحة سطحية وضيقة الأفق تُغفل الجرائم المُرتَكبة في الماضي القريب. ويجب ألا يتم عزل الأحداث عن بعضها، فما زالت جرائم الدولة منذ  25 يناير و إلي اليوم لم يتم العقاب عليها. وما زال الرأي العام يجهل حقيقة من ارتكب هذه الجرائم و كيفية ارتكابها. وفي ظل وجود خطاب متصاعد يؤمن بأن المصالحة قد تمت بالفعل بين الشعب ومؤسسات الدولة القائمة وعلى رأسها جهاز الشرطة الذي لم يشهد  محاسبة عن الجرائم  أو إصلاحًا أو تغييرًا في أسلوب عمله. ويتزامن ذلك مع بقاء اللواء محمد إبراهيم في منصب وزير الداخلية، وهو من اقترنت خدمته في أثناء حكم محمد مرسي بانتهاكات واسعة في حقوق الإنسان. فهو الذي ارتُكِبت في ولايته مذابح بورسعيد والسويس في يناير الماضي، وقامت الشرطة في عهده خلال يناير الماضي  بأوسع حملة اعتقالات عشوائية منذ اندلاع الثورة، وتعرضت عشرات المواطنات في إثرها  لاعتداءات جنسية في أثناء احتجازهم في معسكرات الأمن المركزي دون أن يتعرض أي فرد في جهاز الشرطة للمساءلة عن ذلك.

إن وجود وجوه  المتورطين في انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان في السلطة يفسد إمكانية إقامة مصالحة حقيقية ويرسل رسالة إلى الضحايا والمجتمع أن الحصانة سائدة. فأي لجنة مصالحة يجب أن تمارس عملها بشكل شامل وجدي لا يكون الغرض منها إيجاد واجهة مصالحة فحسب، ولكن لاكتشاف الحقيقة عن جرائم الماضي من خلال التحقيق ومحاسبة مرتكبي الانتهاكات وتحقيق العدالة للضحايا بما يضمن عدم تكرار هذا النمط من الجرائم في المستقبل.

الخطورة العظمى تكمن في محاولات إعادة كتابة التاريخ و المضي في اتجاه نسيان الماضي بدون محاسبة. وشاهدنا في المؤتمر الصحفي المشترك  للقوات المسلحة ووزارة الداخلية يوم الاثنين 8 يوليو، المتحدث الرسمي لوزارة الداخلية وهو يقول إن الأحداث أثبتت براءة جهاز الشرطة من جميع التهم التي ألصقت به، وأن الشرطة أصبحت تعمل من أجل الشعب. ومع صعود هذا الخطاب ، بالإضافة إلى بقاء أفراد مشتبه بهم  ومع عدم وضوح آليات ومعايير للمصالحة، فمن السهل أن يمهد هذا إلي إعادة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة في حقوق الإنسان إلي وظائفهم ومراكزهم وتحصينهم من أي معاقبة جنائية. فيما يخص مؤسسات الدولة، كوزارة الداخلية مثلا، فهذا يعطي انطباعًا أن الجرائم المنسوبة إلى هذه المؤسسات كانت بسبب بعض قياداتها فحسب. ورفض الاعتراف بمنهجية هذه الجرائم يضعف من فرص إعادة هيكلة هذه المؤسسات، الأمر الذي طالبت به الثورة منذ بدايتها وتم تجاهله من قبل الحكومات المتتالية منذ سقوط مبارك.

الأولوية الآن ينبغي أن تكون لتحقيق العدالة كسبيل وحيد للوصول إلى المصالحة الحقيقية. يبدو أن هناك استلهامًا شديدًا من التجربة الجنوب إفريقية في المصالحة، كما جاء على لسان الدكتور مصطفي حجازي، المستشار السياسي لرئيس الجمهورية المؤقت. جدير بالذكر أن جنوب إفريقيا اتخذت العفو الشامل مقابل الحقيقة كوسيلة للمصالحة  بحجة أن الاهتمام بمعاقبة جرائم الماضي يضعف من فرص المصالحة والتسامح والذي بدونهما لن تستطيع الدولة  التركيز في إعادة بناء مؤسساتها. ولكن هذه السياسة  فشلت بشكل كبير في تحقيق العدالة الحقيقية لضحايا نظام الفصل العنصري، وذلك لأن تلك السياسة لم تؤدِ إلى حل أي من المشاكل الجذرية التي مر بها الشعب في جنوب إفريقيا سواء من العنف الأمني أو القمع الاجتماعي. فمازال القطاع الأمني يمارس قمعًا شديدًا ضد المواطنين و مازالت هناك درجة كبيرة من عدم المساواة اقتصاديا بين فئات المجتمع.

لذلك فإننا نكرر أن إيجاد حلول شاملة للمشكلات الجذرية وتحقيق العدالة يجب أن يكونا أهم معايير عمل لجنة المصالحة المذكورة في خارطة طريق القوات المسلحة. يجب ألا يتم حصر العدالة الانتقالية في مسألة المصالحة بمفهوم "عفا الله عما سلف" ولكن  يجب الإصرار على البحث عن الحقيقة ومعاقبة المتورطين في انتهاكات جسيمة  سواء فيما يخص الملف الأمني أو الملف الاقتصادي.  لهذا السبب  يجب تفعيل لجنة المصالحة الوطنية بحيث تكون لجنة حقيقة ومحاسبة ومصالحة على أن يكون لديها تفويض شامل للتحقيق والبحث، تلقي المعلومات وتوثيقها، ودعم حقوق الضحايا والاعتراف بها.