القصاص من «العسكر» ولو بعد حين.. في الأرجنتين!

2 أغسطس 2012

تجمع أكثر من ألف شخص خارج محكمة جنائية فيدرالية في بوينس إيريس بالأرجنتين حوالي الساعة السابعة مساء يوم   5يوليو2012، يترقبون النطق بالحكم في قضية السرقة المنظمة لأطفال المعتقلين السياسيين والتبني القسري لهم من قبل رجال الجيش، وهي القضية المتهم فيها «جورج فيديلا» أعلى قيادة عسكرية في الأرجنتين والحاكم الفعلي للبلاد خلال فترة الحكم العسكري «1976- 1983» ومعه عدد من قياداته ومساعديه.

الحضور خارج قاعة المحكمة ضم العديد من أهالي ضحايا النظام العسكري من  «أمهات بلازا دي مايو» و «جدات بلازا دي مايو»، رابطتان مجتمعيتان، ولدتا من رحم القمع العسكري في السبعينيات وبدأتا في آواخر السبعينيات في محاولة البحث عن ذويهم وأولادهم المختطفين، واليوم صاروا في مقدمة الحركة المجتمعية المطالبة بمحاسبة النظام السابق على جرائمه. وقف معهم خارج المحكمة متظاهرون ونشطاء منتمون إلى الأحزاب والمجموعات اليسارية التي صارعها النظام لفترة طويلة. كما ضم الحشد مواطنين عاديين من المهتمين بمحاكمة رموز النظام العسكري.

كانت أعلام الأرجنتين والأحزاب البيرونية ترفرف والباعة المتجولون يبيعون الحلوى وإحدى فرق الروك الأرجنتينية تلعب الموسيقى في جو كرنفالي يعكس توقعات واسعة بحكم إيجابي. شاشة عملاقة تبث ما يدور بداخل قاعة المحكمة. يجلس الجنرال «فيديلا»، ومعه الجنرال «رينالدو بينيون» الذي خلفه عام 1982، والأدميرال «أنتونيو فانيك» وشركاؤهم من قيادات الجيش والشرطة يتابعون تطورات الجلسة في ملل.

يبدو «فيديلا» متوقعا للحكم، فهو بالفعل قد اعترف فيما سبق بمسؤوليته عن جرائم النظام العسكري، لكنه أنكر وجود خطة منظمة لاختطاف الأطفال، كما أنه لا يعتبر ما فعله جريمة، ورأيه فيما يحدث هو أن «أعداء الوطن وصلوا للحكم وبدأوا في الانتقام».

هذه القضية عمرها حوالي 14عاما الآن، وتختلف عن سابق القضايا في أنها أقرت الحكم الذي أضاف خمسين عاما أخرى إلى مدة سجن فيديلا بوجود خطة مدبرة لاختطاف الأطفال الرضع وإرسالهم لضباط من القوات المسلحة والشرطة وأنصارهم للتبني لكي يتربوا تربية «وطنية سليمة».

ليست هذه المحاكمة الأولى، فقد حوكم«فيديلا» والعديد من رجاله وقيادات الجيش والشرطة التابعين لنظامه من قبل لارتكابهم جرائم ضد الإنسانية، وهذا هو ثاني حكم يصدر ضده لارتكابه جرائم ضد الإنسانية في فترة حكمه العسكري المباشر والتي اتسمت بأبشع أنواع القمع والتنكيل بالمعارضين والمتعاطفين معهم.

كان «فيديلا» قد أدين في نهاية 2010في قضية اتهم فيها بالمسؤولية عن قتل وتعذيب 31معتقلا وحصل على عقوبة السجن المؤبد. كماحكم عليه عام 1985عندما بدأت حكومة «ألفونسين» المنتخبة في محاكمة قيادات المجلس العسكري الحاكم للبلاد آنذاك على جرائم الماضي قبل أن تتعثر وتسمح بتمرير قانون العفو الجائر الذي عرف بـ«قانون الوقف التام» في 1987تحت ضغط من القيادات العسكرية.

وقضى «فيديلا» حينذاك 5سنوات في سجن عسكري يلقى معاملة مميزة، إلى أن أصدر الرئيس «كارلوس منعم» عفوا عاما في 1990خرج فيه «فيديلا» ثم حوكم مجددا وسجن في 1998، لكنه قضى38يوما فقط في الحبس، ثم نقل إلى إقامة منزلية جبرية باستخدام مبررات تتعلق بـ«حالته الصحية».

ولم يتغير هذا الوضع المتأرجح إلى أن نجح الضغط المجتمعي ونشاط منظمات المجتمع المدني في إلغاء قانون الوقف التام في بداية 2001، بعد أن أصدر القاضي «جابريل كافالو» قرارا بإلغائه ومعه قانون الطاعة الواجبة المكمل له.

ثم جاءت أزمة اقتصادية طاحنة تبعتها احتجاجات شعبية واسعة أطاحت بحكومة «دي لاروا»، وأطاحت برئيسين من بعده، وتم انتخاب «نستور كيرشنر» في 2003وتزامنت هذه التغيرات السياسية والمجتمعية مع تغييرات جذرية في منظومة العدالة الجنائية الأرجنتينية. وهكذا بدأت عملية المحاسبة على جرائم الماضي تتخذ بعدا أكثر منهجية ورسوخا.

وأخيرا جاء حكم المحكمة العليا في 2005مؤيدًا لقرار القاضي «كافالو» بعدم دستورية قوانين الوقف التام، وبذلك بدأت الانفراجة الحقيقية في المحاكمة على جرائم النظام السابق.  يعتبر حكم 2010والحكم الصادر في يوليو 2012إذن أول أحكام تقوض من فرص الالتفاف على حكم المحكمة، فقد أمر القاضي بأن يقضي «فيديلا» فترة العقوبة في السجن الاعتيادي، حيث لن يلقى معاملة تمييزية.

أما الشيء الذي يدعو الى السخرية، فهو أن فيديلا ما زال مصرًا على أنه كان يحمي الأرجنتين وهويتها من «ثورة شيوعية»، ويقول إنه فشل في مهمته هذه فأصبحت البلد محكومة اليوم من «الإرهابيين»وهو كلام متشابه كثيرًا بما كان يعرف بعقيدة الأمن القومي في فترة المكارثية في أمريكا  في الستينات من القرن الماضي أو في الأرجنتين تحت حكم الجنرالات أو في مصر اليوم.

لقد حاول جنرالات النظام العسكري الأرجنتيني تصوير الجرائم المرتكبة في الفترة مابين 76و83—التي يقدر ضحاياها بما بين 11و30ألف من المفقودين والقتلى-على أنها «أضرار تابعة» من النوع الذي يصعب تجنبه في سياق الصراعات الداخلية. وقد عمل المجتمع المدني الأرجنتيني طويلاً وجاهدًا، لكي يغير هذه الصورة الكاذبة التي رسخها النظام العسكري عن الصراع السياسي غير المتكافئ في السبعينيات. وقد أكدت المحكمة هذا بعد أن استمعت الى مئات الساعات المسجلة من شهادات الناجين وأهالي المفقودين، فقالت في حيثيات الحكم إن جريمة الخطف والتبني القسري كانت جريمة منهجية ولم ترتكب بشكل فردي، وهو ما ينخلع على كل جرائم وانتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبها النظام العسكري والتي أصبحت أكثر وضوحا اليوم.

كان كارلوس منعم قد برر قرارات العفو التي اصدرها في التسعينيات بقوله أنه يسعى الى «المصالحة من أجل البناء» وهو منطق، بعيدا عن الأخلاقيات، مغالط، بالإضافة إلى كونه غير واقعي، فجزء كبير من المجتمع لم تلتئم جراحه ولم يكن ليرضى بمقايضة الاستقرار والنمو بالنسيان، ولم يتوقف هؤلاء يوما عن البحث عن العدالة والحقوق المسلوبة، وهو ما أثبتته الأيام بالعودة الى المحاسبة الجنائية بعد أكثر من عقدين من الصراع والتخبط السياسي. بالإضافة الى ذلك فان آليات العدالة الانتقالية هي جزء مهم وضروري من عملية البناء، إذا كان الغرض هو بناء دولة القانون كما قال منعم وكما يقول البعض اليوم، والهدف الرئيسي منها هو إنهاء حالة الإفلات من العقاب، وبالتالي فهي تضع قواعد جديدة لمؤسسات الحكومة الأمنية وغير الأمنية للعمل في سياق ديمقراطي لا يوجد فيه تحصين من عواقب ارتكاب جرائم وتعيد ثقة المجتمع بالمؤسسات. لعل هذا هو الدرس الأهم للنخبة السياسية في مصر والتي تحاول تخطي المرحلة الانتقالية بأقل خسائر ممكنة  وترتعد من مجرد ذكر كلمة محاسبة جنائية. فقد مرت الأرجنتين بعدة مراحل من انتقال السلطة للحكم المدني وبفترات استقرار ثم فترات اضطراب, وطالت فيها فترة التحصين من العقاب,لمدة 14عاما- من 87إلى 2011-إلا أنها لم تنجح في غلق هذه الصفحة الى الأبد أو في الحفاظ على الاستقرار المزيف المبني على النسيان.

* نشر في جريدة المصري اليوم 2 أغسطس 2012.