الحريات النقابية.. القانون وحوار الطرشان*

23 مايو 2013

ماذا يريد وزير القوى العاملة والحكومة والإخوان بالضبط من النقابات العمالية؟

 

لعل هذا السؤال الغاضب الذى يدور على ألسنة المعنيين بالتنظيم النقابى العمالى يلخص لنا ما يحدث هذه الأيام بشأن قانون النقابات العمالية. فانتازيا غامضة تدور أحداثها داخل ما يسميه وزير القوى العاملة «بحوار اجتماعى» من أجل إصدار قانون جديد للنقابات. هذا الحوار الذى جرت جولة جديدة منه فى شهر مايو الماضى قبل أن يقرر الوزير وحكومته تأجيل الانتخابات النقابية لستة أشهر أخرى.

 

فى الجلسة الأولى من «الحوار» التى استغرقت ساعات طوالًا وضع وزير القوى العاملة الحاضرين إزاء خيارين هما: تعديل القانون 35 لسنة 1976، أو الشروع فى صياغة قانون جديد. والخيار الأخير ــ الذى يقتضى وقتا طويلا ــ يجعلنا أمام مسألة تمديد ولاية المجلس الحالى لاتحاد العمال التى كانت قد شارفت على الانتهاء. وتجدر هاهنا الإشارة إلى أن المد للمجلس الحالى مستمر منذ عام 2011.

 

أما الجلسة الثانية فقد بدأت من نفس النقطة التى بدأت منها الجلسة الأولى تقريبا، بإضافات بسيطة قدمتها الوزارة كإجابة عن تلك الأسئلة التى طرحت من الحاضرين فى الجلسة الأولى. وكانت أبرز رسالة فيها هى حثنا على الموافقة على تمديد ولاية مجلس اتحاد عمال مصر لمرة أخرى. وحددت الحكومة موقفها بأنه لو لم نوافق أن نجرى الانتخابات وفقا للقانون 35 بغير تغيير، فإن علينا أن نوافق على مشروع القانون المعروض حاليا على مجلس الشورى.

 

سيقول قائل: هذا أمر جيد، وما العيب فى ذلك؟ فالوزير بهذا ظهر فى منتهى الديمقراطية، فها هو الرجل يجمع كل الأطراف المعنية، ويحاورهم، فلماذا التجنى عليه؟

 

وحقيقة الأمر أن هذا القول يعكس تصورا رومانسيا يجافى الحقيقة. فالحوار الراهن مجرد حوار صورى غايته كسب الوقت، تأخذنا الوزارة فيه من مكلمة لترمى بنا لأخرى، وذلك بغير الوصول لنتيجة تعبر عن رؤية مسئولة. ولا يخفى غرض ذلك عن العيان، إذ تسعى الحكومة لتجميل صورتها أمام المنظمات الدولية خصوصا منظمة العمل والإيحاء بأنها جادة فى عزمها إصدار القانون المعطل منذ أكثر من عامين. وحقيقة الأمر أنها تستبق بالحوار المزعوم قرارا متوقعا من قبل المنظمة الدولية يعيد مصر للقائمة السوداء لمنتهكى الحريات النقابية التى خرجت منها عام 2011 بعد تقديم وعود بإطلاق الحريات النقابية، وإصدار قانون يُمكن النقابات من ممارسة حقها فى التنظيم بحرية. ويكفى تأمل قائمة الحضور فى جلسة الحوار الأول التى غلب عليها العاملون بالوزارة، وممثلو المراكز العمالية القريبة للإخوان وجلها لم نسمع به من قبل، لنعرف توجه هذا الحوار.

 

المتتبع لجولات الحوار السابقة التى بدأت مع الوزير أحمد البرعى فى 2011 حول صياغة هذا القانون سيعرف كيف أن الحكومة عازمة على فرض رؤيتها السلطوية على العمال برفض استقلال العمل النقابى وتنوعه ومعاداة الحريات النقابية.

 

●●●

 

الحوار الذى بدأ مع وزارة البرعى حضرته وقتها الأطراف المعنية جميعها واستمر لعدة أشهر فى مداولاته. والغريب أن خالد الأزهرى وزير القوى العاملة الحالى قد حضره بصفته ممثلا عن «مركز سواعد» التابع لجماعة الإخوان المسلمين وقتها، ومن ثم شارك فى أعمال صياغة مسودة القانون. وهو يعرف يقينا بمحتوى هذه المسودة ويعرف نتائج وتوصيات ما سبق من جولات الحوار. والأهم أنه يعرف مسيرة مسودة قانون الحريات النقابية التى تم التوافق حولها بحضوره من مرحلة عرضها على مجلس الوزراء القائم وقتها، وأنه قد وافق عليها، لمرحلة تعثره ومنع تمريره بسبب تعنت المجلس العسكرى الذى وقف حجر عثرة أمام إصدار القانون بغير إبداء للأسباب.

 

وكان لافتا أنه كلما أشرنا لما اصطلحنا على تسميته بمشروع قانون الحريات النقابية فى الحوارات التالية كلها، وأظهرنا ما يحظى به من توافق عريض وألححنا قائلين أنه ليس على الحكومة ــ إن كانت خالصة النية ــ سوى السعى لإصداره، يجىء الرد الباهت من ممثلى الإخوان: بأن «ملاحظات» قد أبدوها على مشروع القانون هذا تجاهلتها اللجنة التى صاغته ومن ثم فإنهم لا يريدونه.

 

وثمة مسألة مهمة هنا فى تطور المداولات حول مشروع القانون. فأثناء انعقاد مجلس الشعب (قبيل حله) تلقت لجنة القوى العاملة بالمجلس عدة مقترحات بمشاريع قانون تقدم بها كمال أبوعيطة وأبوالعز الحريرى وعمرو حمزاوى. وهى مشروعات تعكس بقوة ما فى مشروع قانون الحريات النقابية الذى تم التوافق عليه فى عهد البرعى، وفى الوقت ذاته، تقدم حزب الحرية والعدالة بمشروع آخر. ولم يكن مفاجئا أن آثرت الأغلبية الإخوانية مناقشة مشروعها فى حين أهملت النظر لأى من مشاريع القانون الأخرى. ولحسن الطالع سبق السيف العزل وتم حل المجلس قبل إصدار هذا القانون الإخوانى.

 

بعد بضعة أشهر، ومع اقتراب موعد تجديد المد لاتحاد عمال مصر، ساد لدى الحكومة هاجس انتهاء مدة مجلس الاتحاد وانتهاء ولايته قانونا، فدعا بسرعة لجولة جديدة من الحوار الصورى. وانعقدت جلسة حوار فى لجنة التنمية البشرية بمجلس الشورى، وبعدها عقدت أخرى مع تولى خالد الأزهرى منصب وزير القوى العاملة والهجرة، وحضرها كل وزراء القوى العاملة السابقين ووزير الدولة للشئون القانونية والبرلمانية وقتها محمد محسوب بالإضافة لعدد من أعضاء البرلمان وعدد من ممثلى العمال غالبهم عن اتحاد عمال مصر.

 

وأنهت الحكومة هذه الجلسة بادعاء أن العمال ما زالوا يريدون وقتا للتوافق حول القانون الذى يريدونه! وادعوا أن الحكومة آثرت أن تبتعد تاركة الأمر للعمال أن يتوصلوا بأنفسهم لقانون يرضيهم. كان هذا التسويف مجرد ستار مرر من خلفه قرار رئيس الجمهورية فى نوفمبر الماضى بمد العمل لمجلس اتحاد عمال مصر. ولم يقتصر الأمر على هذا القرار الصادم، بل تم تعديل قانون النقابات على نحو يُمكن الحكومة ــ عبر وزير القوى العاملة ــ من التدخل لإعادة تشكيل مجلس إدارة الاتحاد ومجالس إدارات النقابات العامة. والهدف الواضح من التعديل من وجهة نظر الحركة العمالية كان إحلال موالين للنظام فى مواقع إدارة التنظيم النقابى العمالى، وانجلت الصورة مع التدخل الحكومى الفاضح لفرض أعضاء بعينهم على النقابة العامة للعاملين بالبترول، مما حدا بهذه النقابة إلى إعلان انفصالها عن اتحاد العمال احتجاجا على هذا التدخل.

 

ويبدو أن المد الأخير لمجلس الاتحاد لم يكن كافيا لإتمام حكومة الإخوان سيطرتها على الاتحاد، والوضع النقابى برمته، ونبهتها الخسارة الفادحة فى نتائج انتخابات اتحادات الطلبة لاحتمالات خسارة جديدة يمنون بها فى مربع العمال، فعمدوا إلى الدخول فى دوامة جديدة من حوارات لا تفضى لشىء سوى كسب المزيد من الوقت. ولعله من السذاجة أن نسأل الآن عن سبب العودة لجولة حوارات أخرى مع قرب انتهاء أجل المد للمجلس الحالى لاتحاد العمال. فالأمر لم يعد خفيا على أحد. وهذه الرغبة فى السيطرة على حركة العمال ــ على نحو ما كان يفعل النظام السابق ــ هى ما يفسر إهمال طرح قانون النقابات الجديد (الذى اصطلح على تسميته بقانون الحريات النقابية) رغم مطالبة العمال والنقابيين به منذ أكثر من عامين واللجوء إلى مد آخر لدورة المجالس الحالية.

 

●●●

 

خلاصة القول إن الحكومة ليس لديها العزم على إجراء إصلاح تشريعى حقيقى ولا رغبة لديها فى تحقيق الاستقلال النقابى بل هو حلم وراثة النظام القديم يسيطر عليها فيدفعها لفرض قواعد وتشريعات تؤدى لمزيد من تبعية التنظيمات النقابية. وكل غايتهم إزاحة وجوه مالت بولائها لصالح نظام مبارك لتحل محلها وجوه توالى النظام الإخوانى الجديد، دون تغيير يذكر لا فى الأساليب ولا فى السياسات.

 

أليس هذا حوارا للطرشان؟

 

*نشرت في جريدة الشروق بتاريخ 21 مايو 2013