جزرة لأسطورة التنوير
لا أميل عادة إلى افتراض وجود غاية وحكمة وتخطيط متناغم وراء كل ما يصدر عن الدولة المصرية وسلطاتها المختلفة، ولكن ما حدث مؤخرا مع إسلام بحيري يجعلني هذه المرة أميل إلى وجود سياسة بسيطة ومتناغمة تحاول الاستفادة من المنهج السياسي التربوي المشهور بأسلوب «العصا والجزرة»، وتفسره أكثر حكاية شعبية عن حيوان ما – غالبا ما يكون حمارا – يقوده راكبه عن طريق مزيج من الترهيب والترغيب، عصا تضرب مؤخرة الحمار وجزرة يلوح بها الراكب أمام وجهه تشجعه على المضي قدما.
هناك مجموعة من التنويرين يرون أنهم يقومون بتحرير الناس من الأفكار الدينية التقليدية البالية ومن تقديسهم للتراث والسلف والقدماء، ومن معتقدات سخيفة وأساطير، ولكن بعض هؤلاء التنويريين بدورهم لديهم إيمان غرائبي لا يتزعزع مهما حدث بأسطورة معاصرة ما تقول إن النظام الحاكم هو بالضرورة ضد «التسلط الديني» من حيث المبدأ، لأنه يستمد شرعيته من الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين، أو على الأقل هذا النظام سيتخذهم حليفا ضد ما تبقى من «فلول الإخوان» والتيارات الإسلامية السياسية، أو ربما هناك «جناح» في النظام متعاطف مع التنوير والأفكار التنويرية.
تغاضى هؤلاء التنويريون إيمانا بأساطيرهم عن الحالة المزرية للحريات العامة والشخصية، وتحديدا حريات الفكر والاعتقاد والتعبير، وهو ما يهددهم ويهدد مهمتهم وربما ووجودهم بالأساس، وأبدوا تأييدهم للسيسي وللنظام بكل حماسة أو على استحياء، إيمانا بأسطورة السلطة التي قهرت «الفاشية الدينية» وسترعى «التنوير» وستأتي به في حراسة الدبابات وبوكسات الداخلية التي تحمي الآن حدود المجال العام وكواليس الإعلام.
أنا لا أشكك في قدرة الدبابات وبوكسات الداخلية على فرض ما تريده من الأفكار عبر أذرعها المختلفة، وإذا نحينا جانبا التقييم الأخلاقي لا أشكك أيضا أنها ربما قد تكون فكرة عملية- رغم انحطاطها- أن يتحالف التنويريون مع سلطة قمعية تستثنيهم من أجل مهمتهم التنويرية أو حتى من أجل حماية مكانتهم وبعض مكاسبهم الشخصية في مجتمع معظمه متحفز ضدهم، ولكن المشكلة الأساسية هنا أن السلطة تقدم لهم الإشارة تلو الأخرى أن خطتها لبناء شرعيتها وتثبيت حكمها لن يتم فيها التخلي عن «التسلط الديني» وأدواته ولكن الاحتفاظ بها واستخدامها لصالحها، وتقدم لهم الأمارة تلو الأخرى أن رجال هذا النظام لا يشتركون معهم عموما في الأفكار وليسوا على استعداد لتحمل إزعاج أفكارهم المختلفة ولا تحمل مزايدة الإسلاميين على السلطة إن تسامحت معهم بأنها تؤسس- لا قدر الله- لدولة علمانية.
يستدعي النظام مشيخة الأزهر والسلفيين لدعم خطواته ومعاركه ضد الإخوان المسلمين والتيارات الموالية لهم وضد الهجمات الجهادية، يتخذ مسافة ما بينه وبين الأزهر ومسافة أوسع بينه وبين السلفيين لكي يحمي نفسه أيضا من التورط الكامل مع تناقضاتهم الفكرية ومماحكاتهم اللفظية الفارغة غير المجدية ويدعوهم بمكر ودلال إلى «تجديد الخطاب الديني» ويرمي الإشارات أنه غير راض عن تأخرهم في إنتاج أفكار جديدة جميلة ونظيفة ومتطورة بسرعة من أجل مصر، ولكن رغم كل شيء وبشكل عملي، هم في النهاية أقرب للنظام ورجاله وأكثر فائدة له من مجموعة من المثقفين والكتاب والإعلاميين أصحاب الآراء المزعجة والمثيرة للجدل.
إسلام بحيري من هؤلاء التنويرين الذين أبدوا وما زالوا يبدون تأييدا للنظام الحاكم، وراهنوا أن هناك مساحة ما لتجاوز الخطوط الحمراء التي تحرسها المشيخة والسلفيون، حلفاء النظام ومستشاروه في شؤون التسلط الديني، وكانت النتيجة أن إيمانه بهذه الأسطورة انتهى به إلى السجن.
انطلقت صيحات الاستنكار والتضامن معه ضد محاكمته على أفكاره وتنادي بإلغاء المادة القانونية المشينة في قانون العقوبات المشهورة بمادة «ازدراء الأديان»، وأنا بشكل كامل في هذا الصف مهما كان الاختلاف، وانطلقت أيضا محاولات عديدة للوساطة ومناشدات للرئيس بالتدخل من أجل العفو.
بعض محاولات الوساطة والمناشدات كانت تقدم طلبها بتذكير النظام بأسطورة التنوير حبيب الدولة، أو الذي يجب أن يكون حبيبا للدولة، ولكن في النهاية «كل شيء عند العطار إلا حبني غصب».
صدر العفو الرئاسي عن إسلام بحيري قبل انتهاء مدة عقوبته بأسابيع، ليبدو المشهد وكأن النظام قد استخدم العصا ليؤدب التنويري أكثر من 300 يوم ثم وضع أمام عينيه جزرة التعاطف الفاتر معه بالتغاضي عن حبسه 40 يوما أخرى وأطلق سراحه.
خرج إسلام بحيري وقد جددت الجزرة البائسة إيمانه وأعطته دفقة جديدة ليتحدث عن «الموقف الأيديولوجي» وراء العفو، وعن «إعلاء الدستور فوق القانون» وعن «انتصار التنويريين والمثقفين على خصومهم» لأول مرة على يد السيسي، في الوقت نفسه الذي تتوالى محاكمات ازدراء الأديان وتعلن كل سلطات الدولة تمسكها بمحاكمات الأفكار: تتفق السلطتان التنفيذية والتشريعية على رفض أي مساس بمادة ازدراء الأديان في قانون العقوبات أثناء مناقشات البرلمان حولها، وتستمر المحاكم في حبس متهمين أقل شهرة بعد إدانتهم باعتقاد وترويج أفكار مختلفة عن السائد.
التنويري المؤمن بأسطورته المتجددة، يعزلها عن كل الوقائع السابقة، ليتورط فيما يلوم عليه خصومه من المؤمنين المنغلقين المتعامين عن الوقائع التي تناقض عقائدهم وأساطيرهم، بل ويرى واقعة سجنه هو شخصيا ومحاكمات رفاقه وكأنها ليست جزءا من سياسات مستمرة واضحة المعالم والاتجاه ولا يراه إلا فصلا من رواية مجد شخصي تحوله هو شخصيا إلى «أسطورة»، لتكتمل رؤيته الأسطورية لنفسه ومهمته.
بعيدا عن شخص إسلام أو رفاقه من التنويريين المؤيدين، فإن أساطير التنوير المعاصر التي تتعامي عن الظلم السياسي والاجتماعي، لتحتمي به أحيانا أو تحاول وهي تشتبك مع التراث الديني أو التيارات الدينية، قد أصبحت كالحمار الذي يخلو تقديره للأمور من التفكير في «إرادة راكبه» واتجاهها، أو التفكير في مشكلة السلطة بشكل واسع، يشكو من ضربات العصا ثم يصيح حماسة وفرحا بالجزرة التي تلوح أمامه من بعيد ويشكر من وضعها في طريقه، معتقدا أن صاحب الجزرة غير صاحب العصا.
أساطير التنوير المعاصر بالإضافة لتعاميها اللا أخلاقي عن مشكلة «السلطة»- وكأنها تمارس مهمة منفصلة في تحرير العقول بعيدا عن تحرر الناس أنفسهم- فإنها أيضا تبدو عمياء أثناء نقد التراث الديني، عن أشكال وصيغ السلطة التي تجعل التراث الديني مشكلة معاصرة أصلا، وهي الأشكال التي لا تزال باقية حتى الآن ضمن ممارسات السلطات السياسية والاجتماعية القائمة، وهي تحديدا التي قادت إسلام بحيري إلى السجن، وتهدد رفاقه، ولكن تفصيل ذلك قد يحتاج مقالا منفصلا قادما.
تم نشر هذا المقال عبر منصة المصري اليوم بتاريخ 30 نوفمبر 2016