التلفيق الديني الجديد والأمل في «مشيخة التنوير»

13 ديسمبر 2016

لا أعتقد أن ما قاله السيسي في احتفال ذكرى المولد النبوي يجب أن يحبط «التنويريين» المؤيدين المحبين للجزرة المعلقة أمام أعينهم، التي تحدثت عنها في المقال السابق.
لا يجب عليهم أن يشعروا أن هناك تناقض بين تأكيد السيسي على أنه «ماحدش يقدر يمس الثوابت، ولا يتكلم فيها» وأنه يحب شيخ الأزهر ويحترمه ويقدره، «واللي فاهم غير كدا تبقى مصيبة»، وبين رغبتهم في أن ترعى الدولة مناقشتهم للثوابت، وبل تنشيء لهم «المجلس الأعلى للتنوير» برئاسة السيسي شخصيا، كما اقترح إسلام بحيري بعد ما أثارت جزرة العفو شهيته وعشمه. للدولة المصرية تاريخ في الجمع بين تبجيل الأزهر وتدليل وزارة الثقافة، في الحفاظ على استئناس اليسار التنويري في«حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي.. إلخ» وخدمات مشايخ طاعة الحاكم المتغلب في «الدعوة السلفية»، ولكل شيء فوائده وجمهوره.

ولكن لكي يستمر هذا الوضع لابد من حدود تلتزمها هذه الأطراف جميعا، لأن الأهم في النهاية هو الحفاظ على تماسك «الجماعة الوطنية»، مهما قدمت نفسها كجماعة ذات هوية إسلامية محافظة ترعى الدين والتقاليد، وهو خطاب موجه عادة للداخل ولأسفل، ومهما قدمت نفسها كجماعة حديثة متطورة منفتحة على العالم وترعى الفنون والآداب وتحب الديمقراطية وحقوق الإنسان، وهو خطاب موجه عادة للخارج ولأعلى، في النهاية يجب أن يكون ذلك كله في حدود وعلى قدر من المراوغة وانعدام الأصالة والاتساق، لكي يمكن الجمع والتوفيق والتلفيق.

وبناء على ذلك، فإن شراسة التنويريين المستأنسين على التراث ورموزه يُفضل أن تبقى في قاعات الندوات وفي الكتب والمجلات التي لا يتداولها الجمهور. أن تتعدى الحدود إلى انتشار كبير عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو برنامج على فضائية ذات مشاهدة عالية، فذلك أمر ضار بتماسك الجماعة الوطنية وهيبة الدولة وعلاقاتها المتعددة المتناقضة وقد يؤدي إلى السجن.

نجوم التنوير المستأنس أمام السلطة المستأسدين على التراث والتاريخ، مثل إسلام بحيري وفاطمة ناعوت ومعهم خالد منتصر وآخرين، يصطدمون هنا بما يتغافلون عنه عند نقدهم للتراث: دور السلطة بمعناها الأوسع في الحفاظ على تماسك الجماعة/الأمة/ الشعب.إذا تناولنا هجوم إسلام بحيري على التراث الفقهي حول «حد الردة» كنموذج، وهو أمر أفرد له معظم حلقات برنامجه، يمكننا أن نلاحظ ذلك واضحا.

إسلام بحيري يهاجم بشراسة وبألفاظ حادة الفقهاء والمفسرين الذين قالوا بأن المرتد عن الإسلام يجب أن يقتل، يقول عنهم أنهم «سفاحون» و«قتلة» و«مجرمون» و«جهلة محدودي المستوى التعليمي والمعرفي»، وكأنهم مجرد مفكرين منفصلين عن مجتمعاتهم ودولهم التي كانت هي «جماعة المسلمين» أو «دولة المسلمين»، فيها سلطة اجتماعية واسعة تضم المسلمين المؤمنين الذين يعتقدون إن الإسلام هو أساس تجمعهم وتماسكهم، ولذلك فإن خضوع غير المسلمين لهم هو أمر أساسي، والمساس بالإسلام هو مساس بعمود الجماعة، والارتداد عن الإسلام بشكل معلن هو تهديد لهذا العمود وتفكيك للجماعة المسلمة، التي لو تراجع أكثرها عن الإسلام أو عن خضوعهم لأحكام الإسلام تنهار الجماعة وسلطتها.
هذه هي الصورة التي كان عليها الأمر منذ تأسيس الجماعة المسلمة مع هجرة النبي وأصحابه إلى المدينة، هنا يتراجع إسلام بحيري، لأنه لا يمكنه أن ينتقد النبي بالطبع، ويقول إنه يتفهم فقط أن يتم الأمر بقتل المرتد «التارك لدينه المفارق للجماعة» في عهد النبي لأن ذلك كان ضروريا قبل اكتمال الدين، ولأن الدين قد اكتمل بوفاته، فلا معنى لقتل التارك لدينه المفارق للجماعة، ويقول إسلام إن هذا منهجه الجديد «التنويري»: كانت هناك جماعة مسلمة في حياة النبي مكانها هو دار الإسلام، وجماعات كافرة معادية للمسلمين مكانهم هو دار كفر، الذي يترك الإسلام وينتقل لمكان خصومه في دار الكفر فإنه يحق عليه القتل عقابا له، أمابعد وفاة النبي واكتمال الدين لم تعد هناك دار إسلام ودار كفر وانتهى معه القتل عقابا على الردة. وكأن «الجماعة المسلمة» ودولتها وخصومتها سيتبخرون بعد وفاة النبي.

هذا الحل التلفيقي الذي يشبه تلفيقات بعض كتب التراث أو كتب الاعتذار عن التراث، هو الحل الوحيد الذي يمكنه من تجاوز انتقاد النبي نفسه وبالتالي الإسلام ككل، ولكي لا يتحول «نقد التراث» إلى «نقد للإسلام». ولكن هذا الحل السطحي المفتقر لأي أصالة أو اتساق يمكّن النجم التنويري من أن يوصل هجومه الجريء على الفقهاء الذين نظروا وأصلوا للقتل عقابا على الردة، وعلى الخلفاء والحكام والولاة من بعده الذين قتلوا المرتدين والمهرطقين والزنادقة بعد النبي لنفس السبب الذي كان شاغل النبي والجماعة المسلمة في عهده: الحفاظ على تماسك الجماعة المسلمة لأن هويتها هذه هي أحد دعائم سلطتها واستمرارها.

«دولة المسلمين» لم تنته بوفاة النبي محمد بل بدأت أطوارا جديدا، مزجت فيها أحيانا بين هويتها الإسلامية وبين هوياتها ودعائمها الأخرى، وهو ما استمر حتى الآن بشكل أو بآخر في الدول العربية/ الإسلامية المعاصرة. وحماية الإسلام كدين للدولة كجزء من حماية تماسك الشعب (لأن أغلبيته/ هويته مسلمة) لم تعد عبر تنفيذ حد الردة ولكن عبر أدوات وأشكال أخرى، لأن «الحدود» متناقضة بشدة مع الدساتير الحديثة والقوانين الوضعية (وهي إحدى الدعائم الجديدة الضرورية للدول الحديثة).

يتطلب الأمر هنا أدوات هجينة كمحاكمات ازدراء الأديان مثلا أو اختيار القضاء المصري «عدم إقرار المرتد على ردته» وإرغامه على التزوير والبقاء مؤمنا في بطاقة الهوية، أو حملة الدولة ضد «المرتدين الملحدين» لأن وجودهم يهدد النظام العام والنسيج الاجتماعي.
مد النقد على استقامته إلى لحظتنا المعاصرة ينتهي بالتأكيد إلى مد «الهجوم الشرس» للنجم التنويري إلى قادة الحكام الحاليين للدول العربية/ الإسلامية بما فيهم الدولة المصرية، بينما الحل التلفيقي الذي يقدمه إسلام بحيري يسمح له فقط باستكمال هجومه على التراث ومحبيه ومن يستخدمونه بدون تهجينات: داعش والسلفيون والإخوان ومشايخ الأزهر.

مد النقد على استقامته بدون تلفيق، قد يقتضي اتخاذ موقف – بعيدا عن الشتم والهجوم الشرس- وهو أننا هنا والآن، مسلمين وغير مسلمين، لا نتبنى نموذج دولة المسلمين لا في أطوارها المتأخرة ولا في بدايتها مع النبي وأصحابه، وأن نموذج الدولة الحديثة الدستورية هو نموذج مختلف من جذوره يجب أن يبتعد عن ميراث النموذج القديم في علاقة الدين بالمجتمع.

أما النقد «التنويري» التلفيقي، فرغم ألفاظه الحادة على الفقهاء والمفسرين فإنه يحاول أن يحتل مكانهم في نفس النموذج، فهو يحاول أن يصور نفسه باعتباره «صحيح الإسلام» الذي شوهه التراث، ويصل إلى أن استبعاد مفاهيم وممارسات مثل «حد الردة» ليس ابتعادا عن نموذج إسلامي للسلطة وتبني لمفاهيم حديثة لطبيعة السلطة ولكن هو وصول تنويري إلى «الموقف الإسلامي الصحيح»، الذي يصادف أنه يتناسب مع المفاهيم الحديثة لممارسة السلطة ولا يتناقض مع المواطنة وحرية الاعتقاد، الحمد لله.

ينتهي النقد التلفيقي التنويري إلى انتزع الإسلام من تاريخه، وإعادة اكتشاف جوهر للإسلام– معلق في فراغ الزمن- اسمه «صحيح الإسلام»، يصادف دائما أنه يتوافق مع «المطلوب إثباته» من الأفكار السياسية المعاصرة.
هذه هي المحطة المزمنة التي تصل إليها معظم مشروعات التلفيق الديني المعاصر، سواء التي تعيش على رضا الدولة ورعايتها، كما في التلفيق الأزهري، أو تسعى للاستيلاء على الدولة وإدارتها، كما في التلفيق الإخواني، أو تحيا على الأمل والعشم وطلب الوصال رغم الهجر والإهانة كما يفعل التنويريون التلفيقيون في انتظار أن تضمهم الدولة إلى معادلة علاقاتها التلفيقية فينشئ لهم السيسي «مشيخة التنوير».

تم نشر هذا المقال عبر منصة المصري اليوم بتاريخ 11 ديسمبر 2016