طريقة وحيدة للهروب من القصر

24 يناير 2013

لافتة أمام القصر الرئاسي تطالب باسقاط حكم المرشد

لافتة أمام القصر الرئاسي تطالب باسقاط حكم المرشد

أعترف، مساء الخميس10 فبراير 2011 شعرت بالشفقة تجاه مبارك.
كنت آتيا من اجتماع دعاني إليه صديق، مع مجموعة من الشباب أعرفهم لأول مرة وينشطون سياسياً للمرة الأولى، كان الاجتماع لمساعدتهم في التخطيط لطباعة مجلة ومنشورات توزع ورقيا على الجمهور الأقل تعرضا للإنترنت، تدعوهم وتحرضهم لاستكمال الثورة، لا تراجع.
وصلنا خبر الاستعداد لبث خطاب لمبارك، نزلنا جريا إلى ميدان التحرير لنسمعه هناك، كان الميدان ممتلئا عن آخره، توجهت إلى مقهى أبحث عن مكان هناك.
بعد فترة من الانتظار بدأ بث الخطاب، فرق كبير من ملامح مبارك في خطابه السابق بداية فبراير، وبين ملامحه الآن. صوته أيضا كان مختلفا كأنما مرت عليه أيام في مستشفى تحاول عبثا وقف تردي حالته فلم تزده إلا إنهاكا.
لم أستطع تبين مشاعري إلا عندما بدا من مضمون الخطاب ما يوحي أنه ليس خطاب تخلي عن السلطة، وبدأت الشتائم المنفعلة تقاطعه غير مبالية بوعوده وتطميناته لتعلن أنه لا أقل من تخليه عن السلطة، وانقسمت الشاشة إلى نصفين لأرى الأحذية المرفوعة في وجهه في ميدان التحرير.

الشفقة..
اتضحت لي مشاعري: هذا رجل مثير للشفقة، وهذه وعود وتطمينات رجل مثير للشفقة. ليست الشفقة هنا تلك الوصمة السياسية المعتادة من باب الإهانة. كانت فعلا شفقة إنسانية على رجل محبوس داخل أسوار السلطة ولا يتصور لنفسه مهربا منها، حسنا، ونحن سنساعده على ذلك بلا أدنى رحمة.
“إلى قصر الرئاسة!” خرجت مجموعة من أمام المقهى في مسيرة إلى قصر الرئاسة، المسافة بعيدة وكنت متعبا، فضلت الانضمام إلى مجموعة أخرى اتجهت لمحاصرة مبنى الإذاعة والتليفزيون، القريب من التحرير والمقهى.
أمام مبنى الإذاعة والتليفزيون على كورنيش النيل، على الرصيف البارد، جلست بجوار صديقة في مواجهة الأسلاك الشائكة ووراءها جنود الجيش الذين ينظرون إلينا بترقب وقلق، كأننا نحن من نقف فوق المدرعات نمسك البنادق.
فكرنا بصوت عال:
– لو تنحى مبارك، من سيتسلم السلطة بعده؟
- غالبا الجيش.
- يادي المصيبة! سيتمسكون بها لفترة، ولو أجروا انتخابات طبعا سيتصدر..
- نعم، غالبا الإخوان.
- يادي المصيبة!

بالنسبة للبعض كان هذا الحوار كفيلا بجعلهم في صف أعداء الثورة، ولكننا بقينا حتى أول الفجر نناقش في حماس نافد الصبر كيفية التصعيد كما لو أن مدينتنا الفاضلة ستسود مع مطلع الشمس.
مع مطلعها بدأت أعداد المتظاهرين تتوافد لمحاصرة مبنى الإذاعة والتليفزيون فرجعت إلى البيت، نمت بضعة ساعات وأخذت حماما ثم نزلت وركبت تاكسي: “إلى قصر الرئاسة لو سمحت”.
بالقرب من قصر الرئاسة نزلت وتمشيت مع الأصدقاء وتبادلنا الأخبار مع المجموعات الأخرى التي تحاصر المداخل المختلفة إلى القصر. ركبت تاكسي لأصل إلى أقرب مجموعة بجوار سور القصر. نعم كانت الحياة تسير حول القصر بشكل معقول والكل يتناقش عن مصير ذلك البائس ساكن القصر. في التاكسي سمعت خطاب عمر سليمان يلقي بيان التخلي عن السلطة وانتقالها للمجلس العسكري. نزلت قرب أسوار القصر واحتفلنا.

لم يمر وقت طويل، حتى بدأ مأزق السكان الجدد للقصر، لم يدم شعار “الجيش والشعب إيد واحدة” طويلا، وتابعت كيف بدأ هتاف “يسقط حكم العسكر” بين عشرات ثم مئات ثم مئات الآلاف ليهدر في شوارع وميادين مصر في يناير 2012.
المؤسسة العسكرية التي كانت عماد الدولة المصرية الحديثة، وكانت القصر الحقيقي للرؤساء منذ ناصر إلى مبارك، عندما أدار قادتها المرحلة الانتقالية للحفاظ على نفس هيكل وطبيعة مؤسسات هذه الدولة، كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، كلما اتسعت قاعدة المشاركة في حصارهم.
بدأ يتضح لي أكثر فأكثر كيف أن الثورة تحيل القصور إلى سجون، وأن حالة ساكني القصور تتردى لتثير الشفقة أكثر فأكثر. وكلما اعتصم ساكنو القصور بسلطتهم ورغباتهم السلطوية وتمسكوا بحقهم وصلاحيتهم في إدارة حياة الناس على مسافات متفاوتة من رضاهم وحريتهم وإرادتهم، فإن الناس يمكن أن تحيل أسوار القصر إلى أسوار سجن.

الفترة الانتقالية كانت “لانتقال السلطة” ولكن لم تقم “بتقويم السلطة” ولم يصبها خيال تفكيك الطابع السلطوي للدولة. مؤسسات الدولة المصرية التي بلورها أو أسسها الانقلاب الناصري السلطوي لا زالت على حالتها، والناس في الشارع لا يزالون على حالتهم يطلبون “عيش وحرية وعدالة اجتماعية”. والأهم أنهم لن يقعدوا في بيوتهم في الانتظار بعد الإدلاء بأصواتهم في صناديق، إنهم بأنفسهم هناك في كل مكان يحاصرون أسوار السلطات جميعا ولا يستأذنون للاشتراك والتشارك في إدارة شؤون حياتهم وفي احتلال مساحات حرية أوسع وانتزاع ضمانات أفضل للعدل.

رحل مبارك وجاء مرسي وبقي الكرسي

رحل مبارك وجاء مرسي وبقي الكرسي

بدا لي الحوار على الأسفلت أمام مبنى الإذاعة والتليفزيون يتحدث عن الترتيب المتوقع لسجناء القصر: الجيش، الإخوان.
هؤلاء الذين سيتداولون السلطة والقصر، سيبدأون مدركين لمأزق السلطة وسجن القصر وقت الثورة. وسيسعون مخلصين أحيانا للتوافق، وسيعلنون صادقين عن مخاطر تولي السلطة منفردين في هذا التوقيت المتأزم وفي مواجهة هذه التحديات الجسيمة.

ولكنهم بدلا من تفكيك الأسوار، يتمسكون بطبيعة السلطة ويدعون الآخرين للتوافق معهم على دستور سلطوي وإدارة سلطوية. يدعونهم لمشاركتهم سجن القصر.
رغباتهم السلطوية تسبب الشقاق وتحول بينهم وبين الحركة في اتجاه الثورة، في اتجاه إزالة أسوار السلطة والقصر والتفكير في أوسع مساحات الحرية وأكبر توزيع للسلطات والمسؤوليات وأكبر مساحة للتشارك، في اتجاه تواضع فكرة السلطة لفكرة الحرية.
سيبنون أسوارا قديمة وجديدة لحماية تصورات الأكثر والأقوى وأحقيته في تشكيل حياة الناس بدلا من تركهم في ساحة الحرية الخطيرة ووسط التنوع الجميل المرعب الصاخب.
ربما تتزين الأسوار باسم الثورة، وبديباجات: الشرعية، الاستقرار، الهوية، الشريعة، الأغلبية، الصناديق.
ولكن المأزق يتكرر، ولا يتصورون بديلا عن مأزق السلطة إلا السلطة. كما تصور الرئيس محمد مرسي أن الحراك المتصاعد والمطالبات غير الخاضعة لسلطته هي مؤشر مؤامرة، وأن المهرب من المؤامرة هو إعلان دستوري يمنحه المزيد من السلطات وسرعة إنجاز الدستور بأي ثمن وبأي شكل ليستكمل بناء مؤسسات نفس الدولة، ليتمكن حزب الأغلبية من ممارسة المزيد من السلطات. لا مهرب من مأزق السلطة إلا إليها؟
عادت مشاعر الشفقة إليّ، وأنا أتوجه في مسيرة إلى قصر الرئاسة مرة أخرى عقب إعلانه الاستبدادي. الشرطة هناك كانت تعاني من الترقب والقلق – مرة أخرى – كأننا نحن من يحمل السلاح. بعد احتكاكات طفيفة وسحابات باهتة من الغاز تبخرت سريعا، انسحبت الشرطة إلى شوارع جانبية.

وصلنا هذه المرة لأسوار القصرـ وسمعنا أن سيارة الرئيس هربت مسرعة قبل أن تتمكن حشود المتظاهرين من محاصرة كل مداخل القصر.
اشتريت عددا كبيرا من علب الإسبراي من مكتبة قريبة وأهديت بعضها لمن لا أعرفهم وكتبنا على أسوار القصر العديد من رسائلنا حتى بدا مشهد القصر جميلا ومثيرا للشفقة. وكانت الرسالة الأساسية: “هذا سجنك لو احتميت به في مواجهة حريتنا”.

غالبا سأتوجه في 25 يناير 2013، مرة أخرى في مسيرة إلى قصر الرئاسة. لست مشغولا بالجدل عن الاحتمالات والتكهنات. ولكني ببساطة سأفعل ما اعتدت أن أفعله منذ سنوات، واعتاد آخرون فعله بغير حسابات كثيرة: سنحاصر بحريتنا هذا القصر وقصور أخرى لكي نساعد ساكنيها المثيرين للشفقة الذين يصرون على حبس أنفسهم بالداخل، ونعلمهم أن هناك طريقة وحيدة كريمة للهروب من حصار الثورة للقصر: لا مهرب من الحرية إلا إليها.

نشر في المجلة بتاريخ 23 يناير, 2013