محنة العمل الأهلي
لم يتوقع أكثر الناس تشاؤما أن يصدر مجلس النواب المصرى قانونا للجمعيات بهذه الطريقة، التى لم تحمل نقاشا حقيقيا فى أروقته، ولم يسبقه أى جدل أو نقاش مجتمعى يحمل وجهات نظر المجتمع المخاطب بهذا القانون، ولكن لغلبة ائتلاف دعم مصر ــ صاحب مشروع القانون ــ تم تمريره بسرعة لا تقل عن سرعة مجلس النواب حال مناقشته السابقة لمجموعة القرارات بقوانين التى عرضت عليه فى أول أيام انعقاده. وقد كنت شخصيا ضمن عاقدى الأمل على مجلس النواب على أن يقوم برفض ذلك القانون وقتما تم عرضه عليه، ولكن للأسف لم يستغرق فى قسم الفتوى والتشريع أكثر من أسبوع واحد، ثم عاد إلى أدراج مجلس النواب محملا ببعض الملاحظات التى لم تنل من قسوة هذا القانون وحدته التى تصل إلى درجة مصادرة الحق فى تكوين الجمعيات، بل وتم التصويت النهائى عليه من قبل البرلمان المصرى، وهو الآن بين يدى رئيس الدولة لاتخاذ الإجراءات الدستورية اللازمة للإصدار.
من ثم فإن الأمل ما زال معقودا، ولكنه بين رئيس الدولة الذى له حق الاعتراض عليه وفق نص المادة 123 من الدستور المصرى الأخير. ومن هنا ولكون العمل الأهلى بحسبانه شريكا للسلطة فى القيام بأعباء مجتمعية سواء كانت أعمالا ثقافية أم صحية أو اجتماعية، فهو شريك فى تحمل هموم المجتمع، كذلك فهو شريك فى قاطرة نمو المجتمع إلى الأفضل. فكيف من الممكن أن يصير ذلك العمل منحة من الحاكم على الرغم من كونه حقا للأفراد وللمجتمعات بحسب نصوص الدستور، التى أفرغها ذلك القانون من مضمونها، بحسب كونه قد توسع فى سلطات الجهات الإدارية المتدخلة فى عمل هذه الجمعيات، حتى صارت بمقام الرقيب على كل أعمال المؤسسات العاملة فى هذا المجال. لم يقف أمر ذلك القانون عند ذلك الحد، بل استفاض فى تقويض رخصة الإخطار، وأضاف العديد من العقوبات، التى تشكل سيفا مُصْلَتًا على رقاب العاملين أو الانزواء تحت جناح السلطة، أو الغلق والمصادرة والوقوع تحت طائلة العقوبات.
هذا كله يؤكد أن العمل الأهلى فى مصر قد انتقل إلى مرحلة المحنة، بداية من محاولة تسجيل الجمعية أو المؤسسة مرورا بممارسة النشاط وصولا إلى أحكام الغلق والحل والعقوبات. وفى كل هذا لا يفوتنا أن ننوه على الجهة الجديدة التى استحدثها هذا القانون والتى سميت «الجهاز القومى لتنظيم عمل المنظمات الأجنبية غير الحكومية»، والتى جاء النص عليها فى المواد من 70 حتى 77 من القانون .
أرى أن ذلك القانون قد جاوز كل هذه العيوب وصولا إلى ما يطلق عليه عيب الانحراف بسلطة التشريع أو الانحراف التشريعى، وهو من العيوب التى تجعل القانون غير دستورى على إطلاقه، لعدم استهدافه للمصلحة العامة، وليس هناك أكثر وضوحا من الحقوق والحريات فى تمثيلها للمصلحة العامة، كما أن البرلمان قد انحاز إلى جانب السلطة التنفيذية فى تنظيمه لنصوص هذا القانون، وهو ما يمثل انحرافا تشريعيا ثانيا.
لا يغيب عنا أن نُذكر صناع هذا القانون بما جاء فى قضاء المحكمة الدستورية العليا فى هذا الشأن، ومن أهم ما قالته المحكمة الدستورية العليا فى ذلك حكمها رقم 153 لسنة 21 قضائية بأنه «وحيث إنه يبين من جميع ما تقدم أن حق المواطنين فى تأليف الجمعيات الأهلية، وما يستصحبه ــ لزوما ــ مما سلف بيانه من حقوقهم وحرياتهم العامة الأخرى، هى جميعا أصول دستورية ثابتة، يباشرها الفرد متآلفة فيما بينها، ومتداخلة مع بعضها البعض، تتساند معا، ويعضد كل منها الآخر فى نسيج متكامل يحتل من الوثائق الدستورية مكانا سامقا».
ما استقر عليه الأمر فقها وقضاء هو أنه لا يجوز عند التنظيم التشريعى لأمر من أمور الحقوق والحريات أن يكون ذلك التنظيم مضيقا لذلك الحق أو جائرا على مضمونه، أو متجاوزا لنطاقه، أو مصادرا له. ولا بد أيضا أن نؤكد على حرص القانون الدولى لحقوق الإنسان على الحفاظ على ذلك الحق؛ ممثلا للحق فى التنظيم ملتحما مع العديد من الحقوق والحريات والتى أهمها حرية التعبير عن الرأى، والحق فى مخاطبة السلطات، والمشاركة فى إدارة شئون البلاد، فقد أتى النص عليه فى العديد من هذه الاتفاقيات سواء كانت دولية أو إقليمية.
فهل تنتهى محنة قانون العمل الأهلى حينما تتصادم مع صلاحية رئيس الدولة، منحازا فيها إلى جانب الحق والحرية وصالح المواطنين فى وجود هذه المؤسسات، أم أننا نقف على أعتاب مرحلة جديدة فى مصادرة الحق فى التنظيم، وتهميش دور المجتمع فى التفاعل مع الأحداث، وإن كنت أشك فى كون القصد الرئيسى من هذا القانون هو العمل الحقوقى تحديدا، وليس العمل الأهلى برمته، ولكن القانون يصادر الكل من أجل حبس أصوات المدافعين عن حقوق الإنسان.
وليعلم القائمون على أمر ذلك القانون أن المؤسسات الحقوقية قد خاضت العديد من المعارك والخلافات على ذات المستوى منذ سنوات طويلة، ولم يثنها ذلك عن ممارسة دورها الحقيقى فى مساندة المواطنين، ودعم حقوقهم وحرياتهم، وإن كانت هذه الهموم يجب أن تكون هى الحقل الأهم لعمل البرلمان بلجانه المختلفة وبصلاحياته المتعددة، التى ليس من بينها أن يأتمر بأمر السلطة التنفيذية أو يسعى فى كنفها.
تم نشر هذا المقال عبر منصة الشروق الإلكترونية بتاريخ 9 ديسمبر 2016