حصارٌ بين الداء والدَين..
هل تقضي كورونا على مساوئ النظام الاقتصادي العالمي الحالي؟ هل نبلغ عالما أفضل بعد الجائحة؟ حتى الآن لا توجد مؤشرات على ذلك. ولكن الإناء يفور بأفكار لم ترق بعد إلى مستوى السياسات. هناك قدر من المقاومة المحمودة لنظام اقتصادي غير عادل وغير كفء. وذلك عن طريق طرح أفكار وحلول من شأنها إذا طبقت أن ترسم ملامح نظام بديل.
من علامات المقاومة تلك هو ذلك الاقتراح الصادر عن مؤسسة دولية هي الأونكتاد، أو مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية. تضع المنظمة الخيار الواضح أمام أعين لا تريد أن تراه: في ظل أزمة اقتصادية عالمية غير مسبوقة ونقص كبير في الموارد وفي السيولة، هل تنفق الدول على الصحة وتوفير احتياجات مواطنيها والتعافي الاقتصادي أم تسدد ما عليها من قروض؟
في الشهور القليلة الماضية، أعلنت الدول المتقدمة والصين عن حزم عملاقة لتنشيط اقتصاداتها، قدرتها مجموعة العشرين (الدول الأغنى) أنها تصل إلى 5 تريليون دولار (20 ضعف حجم الاقتصاد المصري كله). وتقدر الأونكتاد بأن 1-2 تريليون منها سوف توجه إلى رفع الطلب (زيادة كل من الاستهلاك والاستثمار)، وهو ما سوف يقلل من الانكماش الاقتصادي بما يقدر بنقطتين مئويتين. ويود باقي دول العالم، حيث يقطن ثلثي البشرية، تقديم حزم مماثلة. فماذا يمنعهم؟ نقص الموارد.
لذا تقترح المنظمة تجميد سداد الديون لكافة الدول النامية لمدة 6 أشهر، لمنحهم "مساحة للتنفس"، بحسب تقرير نشر في منتصف إبريل الحالي.
ولماذا لا تقترض هذه الدول كما سوف تفعل الدول المتقدمة؟
لأنه، عندما تلوح أي أزمات أو فترات عدم يقين، يهرب المقرضون (البنوك وصناديق الاستثمار) إلى حيث أفضل ملاذات آمنة، إلى الدول المتقدمة الغنية. وهو ما يضع الدول النامية أمام قيود مالية كبيرة، ويضغط على عملاتها الوطنية نتيجة تدفق الأموال السريع إلى خارجها. وتقدر منظمة الأونكتاد فجوة التمويل التي سوف تواجهها الدول النامية خلال العامين 2020-2021 بـ2-3 تريليون دولار.
فلتبق الأموال داخل البلاد
لذا تقترح الأونكتاد حزمة من الإجراءات التي من شأنها أن تساعد تلك الدول على تجاوز الأزمة بأقل أضرار ممكنة. بنت المنظمة اقتراحاتها على تجارب دولية سابقة ناجحة. أهمها تجربة تخفيف الدول الكبرى للديون المستحقة على ألمانيا بعيد الحرب العالمية الثانية، لمساعدتها على خلق براح مالي يمكنها من تجاوز هزيمتها والدمار الذي لحقها. كما فعل المجتمع الدولي أيضا حديثا مع العراق بعد سقوط نظام صدام حسين، وأخيرا استنادا إلى الدروس المستفادة الأرجنتين الأخيرة لإعادة جدولة ديونها عبر التفاوض مع دائنيها من بنوك ودول ومؤسسات.
هكذا، طرحت الأونكتاد مبادرة عالمية لتجميد سداد الديون وخاصة الخارجية لمدة ستة أشهر قابلة للتمديد بسهولة، تستفيد منها أي دولة، مع منع أي مقرض من الانتقام من الدول الممتنعة عن السداد. إضافة إلى إعادة هيكلة الديون بحيث تتضمن إلغاء قدر من الدين، وتمديد آجال السداد، على أن تتقاسم المؤسسات والدول المقرضة عبء إعادة الجدولة مع الدول المدينة. فكم من مؤسسة توسعت سابقا في الإقراض المتهور غير المدروس، وساعدتها جيوب دافعي الضرائب على تجاوز خسائرها. وأخيرا، تطالب المنظمة بفرض قيود على خروج الأموال، من أجل الإبقاء على الدولارات حيثما يحتاجها كل بلد.
ليست المبادرة عجبا عجاب. فقد سبقتها بأيام مبادرات أخرى لتوقيف سداد القروض.
ففي 13 و15 أبريل طرح صندوق النقد الدولي ثم مجموعة العشرين مبادرتين لتوقيف سداد الديون للدول الأكثر فقرا، لمدة ستة أشهر. 25 دولة في الأولى بمبلغ يساوي 25 مليار دولار (1على ألف من الاحتياجات المقدرة للدول النامية)، و73 دولة في الثانية.
ولكن تلك المبادرات ضيقة النطاق ومعيوبة بحسب تقرير منظمة الأونكتاد. أولا، لأنها تشترط أن تقترض الدولة من المؤسسات الدولية حتى تستفيد من تجميد السداد. مع ملاحظة أن المقرضين المعنيين هم الدول فقط، دون المؤسسات والبنوك. ثانيا، لأنها تفترض أن الأزمة ستنفرج بعد ستة أشهر، على عكس الإجماع الآن على أن الصعوبات الاقتصادية ستستمر عامين على الأقل.
ولاحظت منظمة چوبيلي دت الإنجليزية غير الحكومية التي تطالب بإسقاط ديون العالم الثالث، أن ما قدمه الصندوق فعليا من خلال مبادرته لا يتجاوز مبلغ 215 مليون دولار، مع العلم أن الصندوق قد تلقى دعما دوليا لمواجهة تبعات الكوڤيد-19 يساوي 500 مليون دولار.
وكان أهم المستفيدين من تلك المبادرة ثلاث دول أفريقية سبق أن اقترضت من الصندوق في عام 2014 من أجل مواجهة أعباء وباء الإيبولا، وهي قروض تستحق السداد حاليا. تلك ديون تستحق أن تلغى لا أن تؤجل، وفقا للمنظمة، وللإنسانية.
وعلى غرار الأونكتاد، نادى تكتل من 200 منظمة غير حكومية حول العالم بحزمة من إلغاء وتجميد وتخفيف أعباء الديون على العالم النامي. خاصة وأن صندوق النقد لديه ما يسمح من الموارد بذلك. حيث اقترحت منظمة أوكسفام أن يبيع الصندوق جزءا من احتياطاته من الذهب لتغطية تكاليف إلغاء الديون للدول الفقيرة. خاصة وأن قيمة الذهب لدى الصندوق قد ارتفعت منذ بدء أزمة كورونا، بما قيمته 19,3 مليار دولار وهو مبلغ يفوق كل ديون الدول الفقيرة لكل من الصندوق والبنك (12.4 مليار). ونادى رئيسا وزراء باكستان، وإثيوبيا عمران خان وآبي أحمد بإسقاط الدين، كما طالب البرلمان الإكوادوري الحكومة بالتوقف عن سداد الديون.
باختصار من أجل تمويل التعافي من تبعات كورونا، هناك منهجان: المزيد من القروض الخارجية أو تجميد وإسقاط سداد الديون الخارجية.
البراح المالي للأغنياء، والتقشف للفقراء
أمام الجائحة، بدت الدول الكبرى وموازناتها العامة سريعة الاستجابة، لإنقاذ الاقتصادات من الانهيار الكبير المتوقع. كان هذا هو الدرس الأول المستفاد من الكساد الكبير في 2008. ولكن، بعد 12 عاما من الأزمة الاقتصادية العالمية الممتدة آثارها إلى اليوم، لا يبدو أن هناك من تعلم الدرس الأهم.
يمكن تلخيص حزم الإنقاذ المالية السخية المرة الفائتة (2008)، بأن تمويلها اعتمد على الاستدانة (سواء من البنوك المركزية أو عجز الموازنات) بدلا من الضرائب. كما توجهت إلى خزائن الشركات والبنوك الخاسرة بدلا من جيوب المواطنين المضرورين. ثم ما لبثت الحكومات أن قلصت الإنفاق على كل ما يخدم المواطنين من أجل أن تسد ديونها (المزيد من الأرباح للبنوك وصناديق الاستثمار).
وهكذا، سرعان ما تعافت أرباح الشركات وزادت الثروات. وفي المقابل، ظلت مستويات البطالة مرتفعة عالميا، والنمو ضعيفا. لكن الأهم انتشرت العمالة الهشة التي تعمل أعمالا متقطعة، وغير مناسبة لمؤهلاتها، والتي لا تحميها عقود عمل، ولا تأمينات، ولا تتمتع بأي حماية اجتماعية. إجمالا، خلق ذلك الوضع المزيد من الفقر والجوع في مناطق كثيرة من العالم، وفي المقابل، عرف العالم تكدسا سريعا في الثروات في يد عدد متناقص من الأغنياء.
خلال السنوات الخمس الفائتة، بينما زاد عدد الجوعى حول العالم حيث صار 1 من كل 9 ينام دون طعام، زادت الثروات وتركزت حتى صار 8 مليارديرات يملكون وحدهم ما يملكه 3.6 مليار من البشر.
ثم تبعت تلك الحزم برامج تقشف مالي طالت نظام الرفاه الاجتماعي، تاركة الفقراء والطبقة الوسطى بلا حماية. الخلاصة، هاجمت كورونا العالم وهو مأزوم بالفعل. أزمة هيكلية تضع مصالح الأقلية أمام مصالح الأغلبية، ينتصر فيها النظام العالمي للأولى على حساب الثانية. فماذا تفعل الدول اليوم؟ تساعد الشركات والبنوك مرة ثانية، ويستعد العالم – إذا لم يتعلم من خطأ الماضي القريب إلى نفس النمط من التقشف الانتقائي.
كيف تستفيد مصر من مبادرة الأونكتاد؟
في مصر، جاء الكوڤيد-19 ليشير إلى مواطن ضعف نمط النمو الحالي. نمو قائم على تصدير الغاز والبترول والسياحة، في مقابل ضعف الزراعة والتصنيع. نمو قائم على الاستدانة الخارجية قصيرة ومتوسطة الأجل. نمو ضعيف القدرة على تجاوز الصدمات الخارجية ولا تصل ثماره إلى أغلبية المواطنين. باختصار، نمو هش.
خلال السنوات الماضية، سارت مصر على خطى معظم الدول النامية، فزاد اعتمادها على الدين الخارجي. فزادت أعباء سداد القروض في مصر إلى نصف حجم الموازنة العامة (47.7٪)، ولتصير خدمة الدين هي أكبر بنود الإنفاق الحكومي. مقابل كل جنيه يذهب إلى كل أشكال الإنفاق الاجتماعي، من تعليم وصحة ومساكن ودعم للمحتاجين وأجور وشراء السلع والاستثمارات، يذهب جنيها إلى سداد القروض أو فوائدها.
تخيلوا لو تم تجميد فوائد الدين (دون الأقساط) لعام واحد، سوف يتيح ذلك لمصر خلال العام المالي القادم براحا ماليا يعادل 566 مليار جنيه، أي 6 أضعاف الحزمة التي أقرتها الحكومة والتي يذهب معظمها لإنقاذ الشركات. حينها يمكن تقديم إعانات سخية، لأصحاب المقاهي والورش الصغيرة. يمكن الإسراع في تنفيذ نظام التأمين الصحي الشامل الذي يفترض أن يستغرق عشرة سنوات. يمكن تأمين علاج مجاني لكل المواطنين خلال فترة تفشي الوباء. يمكن بناء مساكن لائقة بإلإيجار المدعم.
وبعد الجائحة، خرج ما يزيد على 8 مليارات دولار من الأموال الساخنة، ويتوقع إلى جانب زيادة معدلات البطالة والفقر، انحسار الاستثمارات وتراجع معدل النمو إلى 2٪ أو أقل طبقا لتوقعات المؤسسات الدولية. وفي ظل تلك الظروف السيئة، مطلوب من الحكومة أن ترفع التمويل المخصص إلى الصحة وإلى التعليم وإلى الذين يفقدون أعمالهم. فما السبيل؟ فهل نقترض من الصندوق والبنك والدول الأخرى أم نغتنم الفرصة؟
في حين تُستبعد مصر من حق التوقف عن السداد في مبادرتي الصندوق ومجموعة العشرين، إلا أنها من الممكن أن تستفيد إن تبنت مبادرة الأونكتاد. ويمكن لمصر أن تكون صوتا لإفريقيا كلها لمساندة تلك الصفقة العالمية الجديدة. حيث تظهر سبع دول إفريقية على قائمة الدول العشرين ذات أكبر عبء خدمة دين (كنسبة إلى الناتج المحلي). بينما يعاني خمس سكان القارة من الجوع. لذا فالأمل أن تدرس تلك المبادرة داخل الأروقة الحكومية، تمهيدا للانضمام لجهد دولي موسع لإقرارها. لعله النفس اللازم للبقاء في زمن أجهزة التنفس الصناعي.
نشر هذا المقال علي موقع الشروق بتاريخ ١ مايو ٢٠٢٠