مصر لا تنفذ برنامج الصندوق والصندوق مبسوط

28 أكتوبر 2018

ما حدث في الزيارات التفقدية الثلاثة الماضية لصندوق النقد الدولي لا يجب أن يمر. ولا يجب أن يتكرر هذه المرة. أو على الأقل يجب أن نسمع تبريرا من أطراف تلك القصة العجيبة.

يزور خبراء الصندوق مصر مرتين كل عام، للتأكد من أن مصر اتبعت البرنامج الزمني المتفق عليه للإجراءات الاقتصادية خلال الأشهر الستة الماضية. زار الفريق مصر ثلاث زيارات سابقة، وبدأ الأسبوع الماضي زيارته الرابعة.

وقصتنا المتكررة هي أن مصر لا تلتزم - في كل مرة من المرات السابقة- إلا بأقل القليل من شروط برنامج الصندوق. فلنبدأ أولا من حيث الكم. عدد الإجراءات التي لم تلتزم مصر بتنفيذها أو الأهداف التي لم تستطع بلوغها.

في الزيارة الأولى، بعد مرور ستة أشهر على إتباع مصر لوصفة الصندوق من تحرير سعر الصرف، مع رفع سعر الفائدة لاحتواء التضخم، وذلك كشرط مسبق للحصول على قرض 12 مليار دولار. ولكن فشلت الإجراءات المتفق عليها في احتواء أثر التعويم على التضخم وعلى سائر مناحي الاقتصاد.

ولكن نجد أن برنامج الصندوق المقسم إلى مراحل وأهداف لتنفذها أو تحققها الحكومة كي تحصل على البركة وعلى دفعة من القرض، لم ينجز معظمه.

حيث رصدت المبادرة المصرية في تقريرها الأول "عين على الدين 1" أنه من إجمالي 13 إجراء أو هدف كان على الحكومة تحقيقه، لم يتحقق سوى 4 فقط. على رأس تلك الأهداف التي لم تستطع مصر تحقيقها كان خفض معدل التضخم. حتى إجراء شكلي بسيط وهو تخصيص مبلغ ربع مليار جنيه لبناء الحضانات من أجل تشجيع الأمهات على الالتحاق بسوق العمل، لم توفه الحكومة.

وتواصل الأداء الحكومي، في الفترة الثانية، ضعيفا. فقد نفذت الحكومة نصف المطلوب منها فقط من إجراءات، وأجلت الباقي. وفي هذا الرابط فيديو مختصر لأهم ما جاء في تقرير عين على الدين2.

أما في الفترة الثالثة، وهي الفترة التي امتدت إلى منتصف العام 2018، فإن الحكومة نفذت وحققت أربعة من الإجراءات فقط من أصل 14 إجراء، بحسب الجدول المنشور في تقرير المتابعة الثالث الصادر عن الصندوق في نهاية يوليو الماضي. وكانت الإجراءات التي تم تنفيذها غير جيدة من حيث الأثر الاقتصادي والاجتماعي، بحسب تقرير "عين على الدين 3".

ورغم ذلك الإنجاز الضعيف، صدرت تقارير الخبراء في المرات الثلاثة مشيدة بالإصلاحات الجريئة والناجحة التي قامت بها مصر، مانحة إياها الشرائح المستحقة من القرض.

التعهد الذي لم تلتزم به الحكومة أبدا

وأما من حيث الكيف، فإن الإجراءات القليلة التي التزمت بها مصر هي في معظمها إجراءات إما مؤلمة لملايين من المواطنين، أو ضارة بالنشاط الاقتصادي، أو تحابي كبار موظفي الحكومة على حساب صغارهم، أو أكثر رحمة بالشرائح الدخلية العليا منها بالشرائح الوسطى والأدنى.

فلنبدأ بالتعهد الذي لم تلتزم به الحكومة قط: الشفافية. هناك معلومات لم تنشرها مصر وتغاضى عنها الصندوق. وهناك بيانات يخفيها كل من الحكومة والصندوق، بما يعوق أي تقييم مستقل لمدى نجاح البرنامج. وهناك بيانات تشير إلى عدم تحقق بعض الأهداف، لكننا لا نجد أي اعتراف بهذا أو مراجعة لهذا الهدف.

أولا: لم تلتزم الحكومة بأي من التعهدات التي تعهدت بها فيما يتعلق بالشفافية ونشر المعلومات. على سبيل المثال: يرصد "عين على الدين 3" أن الصندوق تغاضى عن ثلاثة إجراءات تتعلق بشفافية البيانات والمعلومات كان قد نصَّ عليها البرنامج الأصلي ولم تلتزم بها الحكومة على مدى المراجعتين الماضيتين اللتين قام بهما، مثل: النشر الدوري لتقرير السياسة النقدية (نشر مرة واحدة) وتقرير الاستقرار النقدي ونشر ورقة استراتيجية التخطيط المالي للأجل المتوسط. أما تقرير المراجعة الثالثة الصادر عن خبرائه فقد خلا من أية إشارة إلى وجود تلك الإجراءات في جدول الالتزامات.

إذن، الرسالة هي أن لا الصندوق ولا الحكومة جادان في كل ما يتعلق بالشفافية ونشر المعلومات.  

ثانيا: غاب عن تقرير الصندوق الثالث بعض البيانات المحدثة الهامة. لنأخذ مثلا: الدين العام، أحد أهم المؤشرات المراد تخفيضها كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. وكان التقرير الثاني قد أشار إلى أن الدين العام المحلي قد سار في الاتجاه المعاكس، مرتفعا إلى 3.8 تريليون جنيه في العام التالي للتعويم، أي من 96.9٪ إلى 108.5٪% من الناتج (أعلى بأربع درجات مئوية من توقع الصندوق). هل واصل الارتفاع؟ فيم أخفقت الحكومة؟ فيم أخفق الصندوق؟ أم هل نجحا؟ لا نملك بيانات كافية كي نستطيع أن نحكم بشكل مستقل. كل ما نملكه من بيانات يشير إلى أن الحكومة ضغطت إنفاقها على أجور موظفيها الصغار، وعلى تقديم السلع والخدمات الضرورية لعلاج المرضى والتلاميذ وغيرها من ملامح الإنفاق الضروري.

ثالثا: في حالة تخفيض فاتورة دعم الطاقة، فقد أوضحت البيانات الرسمية فشل الحكومة في تحقيق هذا الهدف. والمتهم الأول: التعويم. ثم زاد الطين بلة الارتفاع العالمي في أسعار البترول. للمفارقة، كانت الخطة المصرية ناجحة في تخفيض المبلغ المخصص سنويا لدعم الطاقة خلال الفترة 2013-2016، أي قبل برنامج الصندوق. ولكن ذهب كل ذلك أدراج الرياح، وعدنا إلى المربع الأول، لتصل فاتورة الدعم المتوقع في عام 2017-2018 إلى مبلغ 120 مليار جنيه، ليقترب من مستواه الأعلى في التاريخ (126 مليار). ترتفع أسعار الطاقة ونعاني ولا تنخفض فاتورة الدعم. هل من مكاشفة هنا؟ لا يطالب الصندوق بها على كل حال.

هل نحتفل بأعلى نمو في الشرق الأوسط؟

احتفى المسؤولون في مصر وفي صندوق النقد بتحقيق الاقتصاد المصري لمعدل نمو أعلى من المتوقع. ولكن هناك أكثر من سبب يدعو للحذر.

بحسب المتاح من بيانات يمكننا التوصل إلى أن النمو لا يخدم الفقراء ولا مضمون الاستدامة.

فقد كانت المحركات الأساسية للنمو خلال العام 2017، بحسب الصندوق "قطاعات السياحة الإنشاءات واكتشافات الغاز الطبيعي". وتشير استطلاعات رأي الشركات مثل إصدار أغسطس من "بارومتر الأعمال"، أن الشركات الكبرى قد أفادت من النمو أكثر من الشركات المتوسطة والصغيرة، التي ما زالت تعاني جراء ارتفاع التضخم، ولا تتوقع أي زيادة في استثماراتها أو في عدد موظفيها.

بل إن نمط النمو معيب منذ ثلاثة عقود. وما زال، بحسب ما جاء في تقرير المراجعة الثاني للصندوق. حيث قدم التقرير تحليلا لنمط التراكم الرأسمالي المسيطر على العمليات الإنتاجية منذ التسعينيات وحتى الآن.

وهو نمط يتسم بالتعميق الرأسمالي على حساب التوسع الرأسمالي. أي أن الاستثمارات تتجه إلى زيادة رأس المال لكل وحدة عمل (مثل شراء معدات جديدة حديثة لنفس المصنع)، وهكذا تزيد نسبة رأس المال لكل عامل. ويؤدي ذلك النمط إلى محدودية خلق فرص العمل الناتجة عن الاستثمارات الجديدة. وذلك بدلا من ضخ رؤوس الأموال في بناء مصانع جديدة بحيث تؤدي زيادة رؤوس الأموال إلى زيادة التوظيف. وهذا يشير إلى عدم ملاءمة الحوافز الممنوحة للاستثمار لاحتياجات الاقتصاد المصري.

ومن ناحية أخرى، ليست كل زيادة في التوظيف خير. فالعبرة هي بنوعية الوظائف. هل هي وظائف لائقة، هل تراعي أجورها مستوى المعيشة، ويتمتع صاحب الأجر فيها بتأمين يغطي معاش شيخوخته وبتأمين صحي وبإجازات مدفوعة الأجر؟. الإجابة غير مطمئنة.

 إذا نظرنا إلى قطاع التشييد والسياحة، فإن طبيعة الوظائف التي تتيحها تلك القطاعات هي مؤقتة، وغير مؤمن عليها، ولا ينطبق عليها قرارات الحد الأدنى للأجر. أما قطاع البترول والغاز الطبيعي، فهو يتميز بكثافة رأس المال، أي أنه يتطلب الكثير من رؤوس الأموال وقليل من فرص العمل. فهل لنا أن نحتفل بهذا النمو أم نسعى لخلق نمط نمو مخالف؟

بين مصر والصندوق.. الخلاف الأخير

ليس بأمر سيء ألا تسمع مصر كلام الصندوق.. أحد أهم المخاطر التي تحيق بالاقتصاد المصري هي انخفاض جديد محتمل في قيمة الجنيه خلال ما تبقى من العام، قد يرفع التضخم إلى فوق 20٪. يأتي هذا الضغط على الجنيه من عوامل خارجية لا يد للحكومة فيها (إلى حد كبير). وحتى الآن نجحت مصر في تفادي حدوث ذلك.. وللعجب.. لا يرضي ذلك خبراء الصندوق، كما ورد في تقارير المراجعة الثانية والثالثة.

منذ رفع سعر الفائدة لمواجهة التضخم الناتج عن التعويم، تدفقت مليارات الدولارات على مصر لشراء أوراق الدين الحكومية قصيرة الأجل بالعملة المحلية، طمعا في تلك الفائدة المرتفعة، وفي استقرار سعر الصرف. هي ديون خارجية متخفية في شكل ديون محلية، يستطيع أصحابها أن يخرجوا من مصر وقتما شاءوا مستبدلين أرباحهم بالجنيه إلى عملة صعبة. وهو ما حدث ويحدث وسوف يحدث في الأجل القصير.

إجمالا خرج حوالي 9-13 مليار دولار (ثلث إلى نصف المبلغ الذي دخل عقب التعويم). ونجح البنك المركزي في تفادي تأثير ذلك الخروج المكثف على قيمة الجنيه. حتى الآن. تحقق ذلك عن طريق احتفاظه بحسابات غير معلنة (خارج الاحتياطي). وكان الصندوق قد أخذ تعهدا على الحكومة والمركزي بإلغاء مثل تلك الحسابات تدريجيا.

ومع تزايد الضغط على الجنيه ينصح الصندوق بالإبقاء على سعر الدولار حرا، بلا ضوابط على خروج الدولارات، وبلا ضوابط لحماية المزيد من المواطنين للنزول تحت خط الفقر. قد لا تستطيع تحويشة البنك المركزي إنقاذ الجنيه مما سيأتي.. فهل يعود الاقتصاد إلى نقطة الأزمة وكأنك يا أبو زيد ما غزيت؟

الخلاصة: كل الأهداف والإجراءات ما هي إلا تفاصيل. المهم هو: حرية سعر الصرف، رفع سعر الفائدة ورفع الدعم عن المحروقات للأفراد. طالما التزمت الحكومة بتلك الإجراءات الثلاثة، سوف تمنح شهادة الثقة من الصندوق. ولماذا تحتاج الحكومة شهادة الثقة؟ كي تستمر في الاقتراض من الخارج ومن الداخل. ولا يسأل الصندوق أبدا عن تطبيق مصر لتلك المبادئ التي ينادي بها من شفافية ومشاركة شعبية واسعة حين تنفق تلك القروض. ولا ينزعج الصندوق إذا ما اتسع عجز الموازنة. ولا يسأل أي نوع من النمو تحقق. ولا عن عدالة التوزيع. الصندوق لا يمثل أحلام المصريين. فماذا عن الحكومة؟

تم نشر هذا المقال عبر موقع الشروق بتاريخ 26 اكتوبر  2018