حين أتى فيلسوف بلجيكي إلى القاهرة باقتراح مجنون

30 سبتمبر 2018

في عام 2016، وقع أكثر من 140 ألف مواطن في سويسرا على اقتراح بتغيير الدستور من أجل تطبيق فكرة نادى بها الفلاسفة من آلاف السنين. جاءت الدعوة من أحزاب ومنظمات حقوقية وأساتذة اقتصاد. حيث تسمح الديموقراطية المباشرة هناك بالاستفتاء على تبني سياسة ما إذا ما وقع مائة ألف مواطن طلبا بذلك. أثناء الدعاية لذلك الاستفتاء، دخلت أكبر لافتة مطبوعة في العالم موسوعة جينيس للأرقام القياسية. ونقلت صورها وسائل الإعلام العالمية، حين تصدرت الميدان الرئيسي لمدينة جنيف. حملت اللافتة سؤالا واحدا يداعبنا جميعا: "ماذا لو ضمنت أن دخلك صار في جيبك؟".

لم تكن تلك هي المرة الأولى ولا الأخيرة التي حاول فيها مواطنون وأحزاب حول العالم تطبيق ما صار يعرف اليوم ب"الدخل الأساسي المعمم". ففي نفس الفترة، كان هناك أربع دول أوربية إضافة إلى كندا وإيران، تسعى من أجل تبني الاقتراح الذي يبدو لأول وهلة أنه ينتمي لعالم مثالي/ خيالي أكثر منه واقعي. وفي نهاية المقال إشارة لأكبر وأحدث تجربة.

الفكرة هي أن يحصل كل مواطن من الحكومة على دخل شهري مناسب مضمون. هكذا بدون أي شروط. كل بالغ وكل بالغة، كل غني وكل فقير، من حقه الحصول على مبلغ يكفي احتياجاته الأساسية في مطلع كل شهر، لينفقه كما يشاء.

ألن يدفع هذا الناس إلى الكسل وترك العمل؟ ألن يؤدي ذلك إلى التضخم؟ ولماذا يأخذ الأغنياء مالا من الحكومة، أهو من قلة الفقراء؟ والسؤال الأهم، كيف يمكن أصلا لأي حكومة أن تتحمل كل تلك النفقات الضخمة إلى الأبد؟

هذا ما جاء إلى القاهرة الاقتصادي والفيلسوف البلجيكي فيليپ فان پارايس ليشرحه.

أسس الرجل -الذي حاضر في أهم جامعات العالم- مع حوارييه "الشبكة الأوروبية للدخل الأساسي" في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، مع مجموعة من الاقتصاديين وعلماء الاجتماع والفلسفة من كافة أرجاء. تهدف الشبكة إلى تدارس الفكرة، وتتبع آثاراها الاقتصادية والاجتماعية في عدد من التجارب الاستكشافية على أرض الواقع. حروف اسم الشبكة تدعى اختصارا BIEN (تعني "أمر جيد" باللغة الفرنسية).

في الدول المتقدمة أم النامية؟

ليست الفكرة بجديدة تماما، بل نادى بها منظرون واقتصاديون كلاسيكيون مثل توماس باين، جون ستيوارت ميل وجون كينيث جالبريث (واعترض عليها ماركس) وتم تطبيقها بشكل أو آخر في دول عديدة منذ القرن الثامن عشر.

كانت الفكرة في الأساس في ذهن الرجل أن تلك السياسة لا يمكن تطبيقها إلا في الدول المتقدمة، دول الرفاه الاجتماعي.

فماذا جعله يغير رأيه؟ وماذا دفع الشبكة إلى تغيير اسمها بعد سنوات من إنشائها إلى "شبكة الأرض للدخل الأساسي"؟

يحكي الرجل كيف هاجمه اقتصادي أثناء عرضه للفكرة في مؤتمر في جنوب أفريقيا، واصفا إياه بالتعالي، لأنه شأنه شأن كارل ماركس، لا يرى التغيير ممكن إلا في الدول المتقدمة. وشرع مهاجمه في إقناعه بالاحتياج الشديد لهذا الاقتراح في الدول التي تعاني من تفشي العمل غير الرسمي والمتقطع ويفتقرون إلى الأجر المستدام اللائق وإلى تعويضات عن البطالة المتكررة التي يعيشونها. على عكس دول أوروبا التي يتمتع مواطنوها بدخل تعويضي إذا ما فقد المرء عمله، أو إذا ما كون أسرة.

وهكذا، مع انعكاسات الأزمة الاقتصادية العالمية في العالم بأسره، انتشر انتقال الفكرة من حيز الدراسة إلى حيز التطبيق. لأنها باختصار سياسة تجيب على أحد أهم المعضلات الاقتصادية: الوضع الهش القلق لمئات الملايين المواطنين حول العالم، من يعملون منهم ومن لا يعملون ومن يعملون اليوم ولن يجدوا عملا في الغد، ومن يرغبون في العمل ولكنهم لا يجدون العمل المناسب لمؤهلاتهم، ومن يعملون كثيرا ولكنهم يظلون فقراء. مرحبا بكم في عالم القرن الواحد والعشرين.

مساوئ التجربة البرازيلية

تقول الفكرة أن لكل مواطن حق في ثروات بلاده. وما دام "حقا"، فينبغي أن يكون مكفولا لكل الناس، بدون استثناء.

وهذا معكوس ما ذهبت إليه التجربة البرازيلية أو المكسيكية، ولحقت بهما مصر بعد عشر سنوات. برامج الدعم النقدي المشروط. وهي فكرة لاقت قبولا من عدد كبير من الدول خلال العقد الماضي، وصار ينادي بها البنك الصندوق الدوليين بعد أن ظلت عقودا تراها دربا من الجنون، يشجع على البطالة والكسل. فلماذا ينتقد فان پارايس وصحبه تكافل وكرامة؟

تذهب مثل تلك البرامج إلى أن تقدم الدولة مساعدة شهرية للفقراء حتى تساعدهم على الخروج من الفقر. وذلك عن طريق وضع شروط تتعلق بربط تلك المبالغ بالتأكد من انتظام أبناء الأسر الفقيرة في الذهاب إلى المدرسة وإلى الوحدة الصحية بشكل منتظم. ولكن.. من يقرر من هو الفقير؟

تتبع عملية التقييم أسلوبا إحصائيا، يغذي موظف حكومي الكومبيوتر بالمعلومات عن كل أسرة، ليتبين المستحق من غير المستحق. يتشكك الرجل في فعالية هذا الأسلوب: أليس الأرجح أن يكون الأشد فقرا هم أقل المتابعين للشأن العام، وبالتالي الأقل معرفة بوجود تلك البرامج؟ وماذا عن الفساد أو الإهمال؟ أليس من الممكن أن يخطئ الموظف في تعبئة البيانات؟ أو أن يحشد الموظف أهالي قريته وأقرباءه، مغذيا الكومبيوتر بمعلومات مغلوطة؟ ألا نجد كثيرا من الفقراء من الصعب عليهم أن يتقدموا من أنفسهم للإفصاح عن قلة حالهم، فيؤثرون أن يحتفظوا بماء وجههم؟ وماذا عن التكلفة؟ التكلفة الباهظة التي ثبت بالتجربة أن الدولة تتحملها للتأكد من انطباق وتطبيق الشروط، ومتابعة الفقراء الجدد، ومتابعة من تحسن حاله، ووجب خروجه من هذا النظام؟ هناك أيضا ما لاحظته التجارب السابقة من أن المساعدات النقدية المشروطة لم تؤد إلى القضاء على الفقر في أي بلد ولا إلى خفض التفاوتات.

ثم أخيرا، ألقى زائر مصر بملاحظة فلسفية، عن التناقض الكامن في مثل تلك البرامج: "إذا كان الدعم لا يستحقه إلا الفقير، فإن هناك مصلحة ضمنية تتكون لدى متلقي هذا الدعم للبقاء على حاله، لا إلى التحسن، حتى لا يفقد الدعم المشروط".

على العكس من ذلك، فإن الدعم المعمم غير المشروط المقترح هنا، يحرر الناس من تلك المخاوف، فينطلقون لتحسين أوضاعهم. سوف يستفيد الفقير والفقيرة من الدعم لتحسين أحواله، مطمئنا إلى أن ذلك الدعم سيستمر، ويستمر مهما تحسنت أحواله.

مشاكل المال السايب؟

ولا يجب إلقاء بالٍ للمخاوف بأن يسيء المرء استخدام المال السهل. لأننا لا نخاف أبدا من إساءة إنفاق المال في حالة غني تلقى ماله الوفير وراثة عن أبيه، ولا نمنعه عنه. بل نتعامل مع تلك الحالات على أنها فردية لا تحول دون تقبل فكرة المال الموروث بلا تعب أو جهد. هو أيضا بحسب التصور المطروح يمنح لكل بالغ وبالغة، وليس لكل أسرة. لذلك، فهو يضمن ألا تمس عواقب تصرف فرد بقية أفراد العائلة. والأهم أن كل التجارب الاستكشافية انتهت بحسن استخدام المواطنين للأموال.

راحة البال والتحرر من القلق إزاء المستقبل هي ما يبيعه لنا الرجل، وهو حلم لا يكيل بالمال. ولكن دعونا مع ذلك نكيله بالمال، أليس هذا ما يجعل منه خطة قابلة للتطبيق بدلا من حلم؟

درس صندوق النقد الدولي الفكرة، وانتهى إلى أن تكلفة تطبيقها تقدر ب 4٪ من الناتج المحلي الإجمالي (يعادل هذا الفارق ما يقول الصندوق في تقرير غير منشور أنه حجم الضرائب التي يمكن لمصر جمعها، لو أنها فرضت حزمة ضرائب على أصحاب الدخول العليا).

ويعترف الصندوق أن الدخل الأساسي المعمم أداة هامة قابلة للتطبيق في الدول المتقدمة، لأنها هي الدول التي تحظى بنظام ضريبي فعال ومتقدم. وتبنى الصندوق الفكرة العام الماضي في إطار حزمة سياسات متكاملة لمحاربة اللا مساواة: ضرائب تصاعدية لاقتطاع أنصبة متزايدة من دخول الأغنياء كلما ارتفعت، من أجل توجيه المزيد من الإنفاق الحكومي إلى التعليم والصحة بالمجان للجميع، وإلى الدخل الأساسي المعمم.

ولكن، نشر الصندوق أوراقا بحثية تنادي بإحلال الدخل المعمم كبديل عن نظم الدعم القائمة في الدول النامية. وهو ما لا يجمع عليه أعضاء شبكة الأرض. حيث يرى بعضهم -مثل أحد أشهر الأعضاء عالميا جآي ستاندينج، أن الدخل الأساسي هو مكمل لدولة الرفاه الاجتماعي وليس بديلا لها.

جاء ستاندينج إلى القاهرة قبل الثورة، ليعرض نتائج بعض تجاربه الأولية الناجحة في قرى أفريقيا وآسيا، في مؤتمر عالمي أقامته وزارة التضامن الاجتماعي (التموين وقتها) عن الدعم النقدي.

الهند معمل التجارب الأكبر

ينادي كبير الاقتصاديين للحكومة الحالية في الهند، آرفيند سوبرامانيان، بالدخل الأساسي المعمم. ويتوقع أنه بحلول 2020، سوف تتبنى ولايتان على الأقل هذا النظام. ومن المقترح تمويله بالأساس عبر إلغاء نظام دعم الغذاء.

ولكن لا تقدم مثل تلك الاقتراحات إجابات شافية بعد عن المخاوف من تساقط المزيد من الفقراء جراء إلغاء نظم الدعم القديمة. لذا فمن الجدير متابعة الهند وبيرو وغيرهما من الدول النامية التي قررت أن تخوض التجربة الملهمة.

يجيب ستاندينج في كتابه "الدخل الأساسي وكيف يمكن أن نجعله حقيقة" على التخوف من ارتفاع التضخم.

ففي الدول النامية، وفي المجتمعات منخفضة الدخل في الدول الأغنى، فإن آثار العرض من شأنها أن تخفض أسعار السلع والخدمات الأساسية. ففي تجارب الهند الاستكشافية، حين زادت القدرة الشرائية لدى سكان القرى، شجع ذلك المزارعين على زراعة المزيد من الأرز والقمح، والتوسع في الأراضي المزروعة وفي استخدام الأسمدة. زادت عوائدهم الإجمالية، رغم تمكنهم من خفض سعر الوحدة. تكون الاستجابة لزيادة الطلب بزيادة العرض بدلا من زيادة السعر. والمستفيد الأكبر هم الأقل دخلا. "يخلق هذا الطلب الكلي ضغطا على نمط الإنتاج ليتحول نحو توفير احتياجات الطبقات الأدنى من سلع وخدمات أساسية والتي تتسم بقدر عال من مرونة العرض".

الآن اقتنعت بالفكرة، اذهبوا وآتوا بضغط شعبي!

ولكن كيف لحاكم أن يقر مثل تلك السياسة، حتى إذا ما اتقنع بها؟ ألم تفشل اختبارات الديموقراطية في تبني الفكرة القديمة-الجديدة؟ ألا يعترض الأغنياء على أي ضريبة من شأنها أن تقص من دخولهم؟ ألا تفرض الدول أحيانا الضرائب لتمويل مشاريع لا يرغب فيها أغلبية الشعب؟

إن أفضل الأفكار لا يتم تبنيها لنبلها أو لجودتها، ولكن لأن وراءها صفوف من المطالبين بها، كما يقول روزفلت الرئيس الأمريكي التاريخي. كما أن بدائل التمويل المقترحة في القرن الواحد والعشرين تتنوع لتضيف على الضرائب التصاعدية: ضرائب على الدخول المختبئة في ملاذات ضريبية، الضرائب على التحويلات النقدية الالكترونية، الضرائب على المواريث والهبات... يذكر ستاندينج في كتابه إحدى مقولات أبو النيو ليبرالية، ميلتون فريدمان: "تظل مهمتنا الأساسية هي أن نطرح بدائل للسياسات القائمة، وأن نبقي تلك البدائل حية، حتى يتحول المستحيل سياسيا إلى حتمية سياسية". 

تم نشر هذا المقال عبر موقع الشروق بتاريخ 28 سبتمبر  2018