عن الإيجار لسابع جار

16 مارس 2018

اقتربت أحوال الجيران في المسلسل الممتع كثيرا من الطبقة الوسطى القاهرية. ومن أبرز ما ساهم في خلق هذه الألفة بين الشخصيات وبين المشاهدين، هي مساكنهم. في عمارة في قلب القاهرة، وليس في مجمع مغلق على أطرافها. في تلك الشقق الدافئة لا في فيلات فارهة. في خضم أحداث المسلسل اليومية، تعرض السكان إلى أزمة كادت أن تطيح بهم خارج بيوتهم. حين كان ملاك العقار على وشك أن يبيعوه لمن يريد هدمه، فاضطر السكان إلى القبول بتوقيع عقود إيجار جديد بدلا من عقود الإيجار القديم كحل وسط يضمن للملاك دخلا عاليا، فلا يطردونهم من بيوتهم. فإلى أي مدى تعبر هذه العمارة عن واقع السكن في مصر؟

يحدثنا تقرير أحوال الإيجار في مصر ٢٠١٧ بالكثير مما يلفت النظر، ومما يستدعي التحليل ويستوجب التعديل.

فكما يذكرنا المسلسل بتآكل الطبقة الوسطى، يرصد التقرير تراجع الإيجار كنمط للسكن. حيث يرصد أحدث تعداد رسمي للسكان صدر في عام ٢٠١٧ تآكل عدد الأسر التي تقطن شققا مؤجرة إلى ٣.٣ مليون أسرة. أي ١٤٪ فقط من إجمالي الأسر المصرية. 

نصف هذه الأسر تقريبا تسكن وفقا لنظام الإيجار القديم والنصف الآخر وفقا للإيجار الجديد.

تمثل لميا وليلى - وجيرانهم- ربع الأسر التي تسكن في القاهرة. حيث ما زالت العاصمة تأوي أكبر عدد من الساكنين وفقا لنظام الإيجار القديم. تضاءلت نسبة أولئك عبر العقود الثلاثة الماضية. ففي منتصف الثمانينيات، كانت أسرة مصرية من كل ثلاثة تسكن في بيت لا تملكه. وكان المأمول أن تزيد هذه النسبة بفضل قانون الإيجار الجديد الذي أقر عام ١٩٩٦، والذي حرر أسعار الإيجارات وأتاح للمؤجر أن يحدد فترات الإيجار. 

وقد اجتذب بالفعل القانون الجديد مليون أسرة في العقد الأول من تطبيقه. ثم وقف كل من التضخم المرتفع وتردي الدخول الحقيقية عوائق أمام انضمام أسر جديدة لهذا النمط من السكن. حيث شهدت نسبة الإيجار خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين ارتفاعا كبيرا من ١٤٪ إلى ٣٩٪ من الدخل. "وبالإضافة إلى الإيجارات الشهرية العالية، يُتوقع من حوالي ثلث المصريين أن يدفعوا ما بين ٢٥% إلى ٥٠٪ إجمالي قيمة العقد مقدما. هذا بالإضافة إلى تأمين يساوي إيجار شهر واحد على الأقل. وفي كثير من الحالات لا يتم رد التأمين في نهاية عقد الإيجار. وكل هذا يزيد من تكلفة الإيجار المرتفعة بالفعل" ، وفقا لنفس التقرير.

وتواكب مع ارتفاع التكلفة، تراجع نسبة الأسر التي انضمت إلى نظام الإيجار الجديد، بدلا من مليون، إلى ثلث هذا العدد فقط خلال العقد الأخير. 


ماذا حدث لشقق المصريين؟

انعدمت ثقة المصريين في سيادة القانون، وفقا للمؤشرات التي عرضها كاتب التقرير يحيى شوكت، الباحث الدؤوب في مجال سياسات العمران. لذا فضل أصحاب المساكن أن يفرضوا عقودا قصيرة الأجل. وصارت ٤١٪ من العقود تتراوح بين سنة إلى ثلاثة. كما أدى ذلك إلى "زيادة طلب الدفعات المقدمة، وارتفاع قيم التأمين، فضلًا عن التمييز لصالح الأقارب والأصدقاء والأجانب، في مقابل من لا يعرفهم المستأجر".

بالإضافة لما سبق، ونتيجة الزيادات المستمرة لأسعار الشقق، فضل أصحابها الاحتفاظ بها كمخزن للقيمة بدلا من عرضها للإيجار. وتضاعفت تلك الظاهرة خلال العقد الأخير، لتصل عدد الشقق المغلقة إلى ١٢.٥ مليون شقة مغلقة، في بلد يعاني سكانه من أزمة سكن.  

لكل ذلك، هجر المصريون الإيجار، إما اختيارا أو جبرا، وفضل أصحاب الدخول الضعيفة أن يلجأوا إلى السكن الخاص. ولكن، جاء ذلك على حساب سلامتهم وسلامة أسرهم. حيث لاحظ التقرير مع "ضمور الإيجار، وارتفاع أسعار المساكن التمليك، وعدم تشجيع البناء الذاتي الاجتماعي، أصبح عدد الأسر المصرية التي تسكن في مساكن غير ملائمة (مزدحمة أو غير آمنة أو تفتقر إلى أمن الحيازة أو المياه أو الصرف الصحي) أعلى من أي وقت مضى في التاريخ". وهو ما نراه في المساكن العشوائية وغير الرسمية والتي تمثل أغلبية المساكن في بلدنا. فهل من طريق لتغيير هذا الوضع؟


لا تأكل ولا تشرب

تحتفظ قلة من المصريين بأغلب ثرواتها في شكل عقارات. حيث توضح دراسة "نحو ضريبة على الثروة في مصر"، أن حوالي ٧٠٪ من الثروات في مصر في شكل أصول عقارية (والباقي أصول مالية). فالعقارات لا تأكل ولا تشرب كما يقول المثل الدارج، تعبيرا عن أن الاحتفاظ بها غير مكلف. حيث لا تفرض الدولة المصرية الضرائب العقارية إلا على العقارات التي تتجاوز ٢ مليون جنيه، وتتهاون الحكومة في جمع تلك الضريبة، بحيث أنها لا تدر سوى بضعة مئات من الملايين من الجنيهات بدلا من تقديرات تفوق العشرة مليارات كل عام. "وتقترح ورقة سياسات صادرة عن صندوق النقد الدولي ومنظمة التعاون الاقتصادي التوسع في فرض ضرائب الممتلكات، لأن تأثيرها أقل سوءًا على مستويات النمو"، بحسب الدراسة.

إذن، تطبيق الضريبة العقارية، خاصة إذا كانت تصاعدية، وتتضاعف مع زيادة عدد الوحدات السكنية للأسرة الواحدة، يحد من الرغبة بالاحتفاظ بالثروة في الجدران، بدلا من توجيهها إلى استثمارات إنتاجية.

هناك أيضا اقتراح آخر من شأنه أن يحد من ظاهرة الشقق المغلقة في مصر، هو فرض ضريبة خاصة على الشقق المغلقة، بحيث يتولد حافز يشجع الملاك على طرح تلك الشقق للإيجار، حتى لا يضطروا لدفع الضريبة. ومن شأن ذلك أن يزيد عرض الشقق ب١٢ مليون شقة، ما يدفع الإيجارات إلى أسفل، بدون الاضطرار لفرض سقف للإيجارات.

***                           

أخيرا، على الدولة أن تتوسع في بناء مساكن للإيجار بدلا من سعيها الحالي لبناء شقق للتمليك. حيث أن الأولى تخدم الفئات الأقل دخلا، في حين أن الثانية موجهة إلى الطبقات الوسطى، والهدف الحكومي منها هو الربح أكثر منه توفير السكن. بل ومن نتائجه غير المباشرة، هو تشجيع الاستثمار في الطوب، ومراكمة الأرباح الرأسمالية من ريع بيع أو تأجير تلك الوحدات من الباطن وبالمخالفة للقانون.

أخيرا، وضع سقف للإيجارات والذي يبدو اليوم من المحرمات كالميسر. الاقتباس من تجارب التاريخ في مصر وحول العالم ليس بأمر سيء. فقد لجأت أوروبا لوضع سقوف للإيجارات بعد الحرب العالمية الثانية، في فترات ارتفع فيها التضخم، حتى يستطيع المواطنون تأمين حقهم في الحصول على سقف ملائم يأويهم. وكذلك فعلت مصر منذ الأربعينات. وفي أيام ما بعد التعويم، يبدو الوضع ملائما لإعادة التفكير. فقد رصد تقرير أحوال الإيجار في عام ٢٠١٧، بلغ متوسط ​​قيمة الإيجار الجديد في مصر ١٢٠٠ جنيه مصري شهريًّا، وهو ما يمثل زيادة نسبتها ٢٠٪ عن العام السابق بعد انخفاض قيمة الجنيه المصري إلى النصف تقريبا في نوفمبر ٢٠١٦. وقفزت الإيجارات في بعض المدن المصرية بشكل غير مبرر مثل بورسعيد والفيوم والشرقية والمنيا التي شهدت متوسطات الإيجار بها ارتفاعا بنسب تتراوح بين ٤٠٪ و٣٠٪ مقارنة بالعام الماضي، وفقا لمسح أجراه القائمون على التقرير. 

الخلاصة، تقتضي سياسات الإسكان العادلة اجتماعيا أن يجد المصريون مسكنا لائقا لا تتجاوز تكلفته الشهرية ربع دخلهم. وهكذا تتسع وتزدهر الأماكن التي تشغلها تلك القلة المنقرضة من الأسر التي تابعها الناس بكثير من البهجة والدموع. الإيجار وليس التملك هو الحل.

تم نشر هذه المقالة عبر موقع الشروق الإلكتروني بتاريخ 16 مارس 2018