التضخم موحد الشعوب

4 فبراير 2018

تذهب السيدة إلى المحل كل أسبوع لشراء احتياجات المنزل. ما إن وقع نظرها على الأرفف المليئة بالسلع، حتى تداركت أنها اكتسبت عادة جديدة منذ فترة. فقد صارت تمسك بكل سلعة لتقرأ شيئا ما قبل أن تعيدها إلى مكانها أو تقرر إضافتها إلى عربة التسوق. ولاحظت السيدة أن الجميع تقريبا فى المحل يفعلون الحركة نفسها، وأحيانا مصحوبة ببرطمة. لا حاجة لهم لسماع الهمهمة بدقة، فكل المشترين فى المحل يعرفون أصل الموضوع: الغلاء المتصاعد يوما بعد يوم.

المكان: البرازيل. الزمان: تسعينيات القرن العشرين.
وللقصة أعلاه ملابسات تستحق أن تروى.
بدأت الأزمة الاقتصادية فى البرازيل فى منتصف السبعينيات، مع تصاعد أسعار البترول فى العالم، واضطرت إلى أن تقترض من الخارج كى تستطيع استيراد احتياجاتها من المحروقات. كان الحكم العسكرى آنذاك يصارع من أجل البقاء، متحالفا مع حزب يمينى يمثل مصالح كبار رجال الأعمال.

فى بداية الثمانينيات، ما لبثت أن ضربت أزمة اقتصادية جديدة عددا من دول أمريكا اللاتينية، سميت بأزمة الديون الخارجية، أعجزت تلك الدول عن السداد. ولجأت البرازيل إلى صندوق النقد الدولى الذى فرض على البرازيل حزمة من الإجراءات مقابل تسليفها. وكانت إحداها هى تجميد الأجور وعدم زيادتها بحيث لا تغذى التضخم. وانكمش الاقتصاد فى ١٩٨٣بدلا من تحقيق النمو.

المزيج المدمر

كان اشتداد الأزمة الاقتصادية آخر مسمار فى نعش حقبة توالى فيها على الحكم خمسة قادة عسكريين كرؤساء للبلاد، خلال عشرين عاما. وبدأت منذ ١٩٨٤ مرحلة جديدة، لا تقل صعوبة.

خلال الفترة الانتقالية نحو الديمقراطية، والتى طالت أكثر من عشر سنوات، اشتدت الأزمة الاقتصادية، وعانت البلاد من التضخم المنفلت بعد أن ضاقت قدرتها على الاقتراض، وأخذت تطبع العملة المحلية كى توفى قدرا من التزاماتها. انهارت قيمة العملة المحلية، ووصل معدل التضخم ٢٠٠٠٪، أجل قرأتم الرقم بشكل صحيح.

وبحلول نهاية الثمانينيات، صارت بعض المتاجر لا تضع السعر على البضائع. فهذا يتغير من يوم إلى آخر. بل تضع على السلع علامات مختلفة الألوان. وتعلق كل يوم على الحائط قائمة جديدة تشرح معانى الألوان بالأسعار الجديدة.

وحين تجاوزت البرازيل أزمة التضخم المنفلت، فى نهاية التسعينيات، انتخب الناس وزير المالية الذى واجهها ليصبح رئيسا للجمهورية. ولكن الرجل وجد مجتمعا محطما، يسود فيه العنف والجريمة، فيه أقلية من الميسورين تحتمى خلف أسوار عالية من فقراء فاقدى الأمل، يهاجمونهم بشكل عنيف ومتكرر. وكان البلد يتعثر اقتصاديا، واضطر إلى الاقتراض ثانية من الصندوق، ما أوقعه مجددا فى حلقة من انخفاض سعر العملة المحلية، وانخفاض مستويات المعيشة.

تكررت بشكل أو آخر القصة، بمراحلها، خلال نفس الفترة، فى عدد كبير من بلاد أمريكا اللاتينية منها الأرجنتين وتشيلى والمكسيك.

دائما ما كانت تغذى الأزمة الاقتصادية حين تقترن بالتضخم عدم الاستقرار السياسى. ودائما ما تفاقم الأمر لأن عبء تحمل الأزمة كان غير متكافئ، بحيث دفع الثمن الأكبر الأغلبية الأقل دخلا. وعلى عكس الفترات التى سادها حكم عسكرى هناك، أتاحت السبل الديمقراطية للتغيير ــ على ضعفها ــ احتواء القلاقل.

عودة من التاريخ

المكان: الشرق الأوسط. الزمان: العقد الثانى من القرن الواحد والعشرين
يمر الشرق الأوسط متأخرا عن سائر الأقاليم الأخرى حول العالم بمرحلة عنوانها التحول نحو الديمقراطية، مدفوعا ومحملا بأزمات اقتصادية واجتماعية متفاقمة. وهى كسائر تجارب العالم عبارة عن مخاض طويل ومتعثر ومؤلم ما زال فى أوله.
يزيد من الصعوبة حاليا اقتصاد عالمى مأزوم ونموذج اقتصادى لم يعد قادرا على مواجهة مشكلات العصر من تفاقم اللامساواة وتزايد الديون الحكومية وتدهور دخول أغلبية سكان الكوكب الذى صار يعانى بيئيا.
تسبب فى ذلك سطوة الشركات العملاقة والمؤسسات المالية والبنكية العالمية والتى قلصت من دور البرلمانات فى علاج عيوب النموذج. هو عقد من المخاض الإقليمى فى محيط مخاض عالمى.
ومع ذلك، ما زالت دول المنطقة تتشبث بنموذج السوق الحر منقوصا (لغياب حريات سياسية أساسية)، فى وضع أشبه بمنتصف السبعينيات والثمانينيات فى أمريكا اللاتينية. وغاية أمل بعض نخبها أن تصل لوضع دول شرق أوروبا رغم أنه انتهى إلى مأساة.
فى عدد من الدول العربية، انخرط صندوق النقد الدولى أخيرا فى الدفع بإجراءات اقتصادية مشابهة لتلك التى فرضها على دول أمريكا اللاتينية فى القرن الماضى، على رأسها تخفيض قيمة العملة وخفض الإنفاق الاجتماعى.
بلغ عدد الدول العربية المقترضة من الصندوق بعد أحداث الربيع العربى ست دول هم: مصر، المغرب، تونس، الأردن، العراق واليمن. ومن لم يقترض من الصندوق اقترض من غيره. ومن لديه من النفط ما يسد حاجته بدلا من الاقتراض، مثل السعودية وإيران والسودان والجزائر، راح يطبق حزمة إجراءات صندوق النقد طواعية، أملا فى الخروج من أزماته الاقتصادية.
والنتيجة؟
خلال الأشهر الماضية، شهد عدد من دول منطقتنا تظاهرات انطلقت من مناطق محرومة اقتصاديا. والشكوى: الغلاء وتدهور مستوى المعيشة لدى شرائح واسعة من المواطنين. هو التضخم يلوح مجددا، مصحوبا بأزمة نمو وبطالة، وبأزمة ثقة فى أنظمة الحكم.
فى تونس وإيران والسودان ومن قبلهم المغرب، انتشرت التظاهرات الشعبية وتشهد الجزائر إضرابات متكررة. والوضع فى عدد من الدول الأخرى على المحك.
يعتبر احتمال التضخم المنفلت بعيد اليوم، فقد تعلم العالم النامى من دروس الماضى. ولكن هل تعلم لماذا لا تجب الاستهانة بالأثر التراكمى لمعدل تضخم متوسط الارتفاع ممتد لفترة زمنية طويلة؟
لعل المثال التالى يوضح.
فى ظل معدل تضخم ٢٠٪ تصبح سلعة بمائة جنيه خلال خمسة أشهر بمائتين. ثم يبلغ ثمنها أربعمائة جنيه خلال عشرة أشهر، وهكذا. ومع بقاء الأجور على ما هى عليه، أو زيادتها زيادة طفيفة، لا يستطيع الإنسان إلا شراء ربع الكمية التى كان يستطيع شراءها قبل أقل من عام.
هذا ما يفعله التضخم ــ حتى إن لم يكن منفلتا.
ولكن إذا اقتربنا أكثر، سنجد تفاصيل أكثر تشويقا فى تلك الصورة العامة.

التفسير الاقتصادى لا التآمرى للواقع

لا يواجه جميع شرائح المجتمع نفس معدل التضخم، هذا ما خلصت إليه دراسة حول اختلاف مستويات التضخم بين الشرائح الاجتماعية فى ظل حالة الحرب على الإرهاب (تحت الطباعة).

فى الصين يقوم البنك المركزى بحساب التضخم عند ثلاث شرائح مختلفة من الدخل. وأسس بنك شيكاغو الفيدرالى أيضا مؤشرات تضخم أسماها المؤشرات الاقتصادية على أساس الدخل IBEX.

وكذلك البنك المركزى الماليزى الذى أعلن فى تقريره السنوى فى ٢٠١٥ أن مستويات التضخم التى واجهتها الفئات الأقل دخلا فى الفترة من ٢٠١١ إلى ٢٠١٤ دائما ما كانت أعلى من المستويات التى تواجهها الفئات الأعلى دخلا.
وعلى نفس تلك الخطى تتبعت الورقة أثر التضخم فى مصر.

الفكرة بسيطة ولكنها غائبة عن الحوار المجتمعى. ويسود بدلا منها التفسير التآمرى لغياب الاستقرار السياسى.


«حين تعلن إحصاءات التضخم الرسمية رقما موحدا لمعدل التضخم، هل يعنى ذلك أن جميع من يسكنون القاهرة على سبيل المثال يعانون نفس مستويات التضخم عن نفس الفترة؟ تبدو الإجابة البديهية على هذا السؤال هى نعم. طالما أن أسعار السلع واحدة. فإذا كنت أنا اشترى الأرز والسكر والخضروات بنفس السعر أو بسعر مقارب جدا للسعر الذى تشترى به أنت، إذا نحن نواجه نسب تضخم موحدة أو متقاربة. (...) ولكن الحقيقة هى أن نسب التضخم التى نواجهها ليست مرتبطة فقط بأسعار السلع والتغير بها، بل مرتبطة أيضا بأنماط انفاقنا على هذه السلع»، كما تشرح الورقة التى أعدها الباحث الاقتصادى محمد سلطان.

فالفقراء مثلا ينفقون نصف دخلهم تقريبا على السلع الغذائية. فى حين يمتلك الأغنياء فائضا من الدخل لا ينفقونه على الاستهلاك بل يوجهونه إلى الادخار.
قامت الورقة بحساب معدل التضخم الذى تواجهه أربع شرائح داخلية مختلفة: إحداها تلامس خط الفقر المصرى وتنفق ٦٥٪ من الدخل على الغذاء، والأخرى هى الطبقة المتوسطة الدنيا وتنفق نحو ٤٠٪ من دخلها على الغذاء. وشريحة الطبقة المتوسطة العليا التى تدخر ربع دخلها وتنفق على الغذاء ربع إلى ثلث دخلها، وشريحة أعلى تدخر ٤٠٪ من الدخل الشهرى لا تنفق إلا عُشر دخلها على الغذاء.
وعلى غرار التقرير الماليزى الرسمى، كانت معدلات التضخم دائما أعلى فى حالة الشرائح الأقل دخلا خلال الفترة ٢٠١٣ــ٢٠١٧. وواجهت الشريحة العليا معدل تضخم صفر فى بداية تلك الفترة مقابل أكثر من ١٠٪ لدى الشريحة الأفقر. ولكن ما حدث بعد التعويم كان تطورا مدهشا.

بعد انخفاض قيمة الجنيه إلى النصف، أمر صندوق النقد برفع سعر الفائدة إلى الضعف. واستفاد من ذلك كثيرا الشرائح الضئيلة التى تدخر.

للتبسيط: إذا كنت تدخر ١٠٠٠ جنيه سنويا، فإنك فى ظل سعر فائدة ٢٠٪، ستحصل على دخل إضافى يبلغ ٢٠٠ جنيه. يوفر هذا المبلغ حماية لك من أثر التضخم. وهكذا زاد الفرق كثيرا بين معدلات التضخم التى تواجهها كل شريحة.

وإجمالا، فى عام ٢٠١٧، واجهت الشريحة الأعلى ذات الادخار معدل تضخم قدرته الورقة بنحو ١٣٪ فى الوقت الذى واجهت الشريحتان الأدنى الدخل معدلات تناهز ٣٥٪.
نعم، عانى جميع المصريين العام الماضى، ولكن أدى رفع سعر الفائدة إلى تمكن الشرائح الأعلى دخلا من تخفيف صدمة التعويم على جيوبهم.

وبشكل عام، وجد الاقتصادى ج. فرانكل الذى عكف على مقارنة عدد كبير من الدول النامية عقب تعويم عملاتها، أن التكلفة السياسية كانت باهظة. حيث زاد احتمال أن يفقد رئيس السلطة التنفيذية منصبه خلال ستة أشهر من خفض قيمة العملة جراء التعويم (إجراء محفز للتضخم) بـ ١.٧ مرة عن الوضع بدون التعويم. وشهدت ٦٠٪ من الحالات التضحية بمحافظ البنك المركزى أو وزير المالية خلال عام من التعويم.

هذه الإجراءات، حين تتخذها الأنظمة طوعا، قد تمتص الغضب الشعبى. وقد تؤدى التظاهرات إلى التراجع عن سياسات مؤلمة اجتماعيا، كما حدث أخيرا فى تونس من التراجع عن رفع سعر الخبز.

عودة إلى البرازيل اليوم. مرت البلد الأهم فى أمريكا اللاتينية بزلازل اقتصادية عززها ضعف الديمقراطية، والتوسع فى الاقتراض الخارجى وتجاهل تنامى اللامساواة الاقتصادية بين المواطنين. ومازالت تعانى مثل سائر دول العالم من تفكك النموذج الحاكم لاقتصاديات السوق، ولكن من موقع أفضل كثيرا من معظم دول المنطقة العربية. وهكذا، عبر التجربة والخطأ، والتمسك بآليات الديمقراطية، بزغت واحدة من أهم وأنجح دول العالم النامى.

يولد التغيير من رحم الأزمات، ولكن السؤال هو أى تغيير؟

تم نشر هذا المقال عبر موقع الشروق الإلكتورني بتاريخ 2 فبراير 2018