التأمين الصحى.. ثورة أم انقلاب؟

23 أبريل 2017

استقبل الطبيب النائب فى الفجر لصا شابا، غارقا فى دمه، فاقدا الوعى، بعد أن وقع على رأسه من أعلى مواسير عمارة. المستشفى غير مجهز لتقديم الرعاية الطبية له. وتعلقت حياة الشاب بيد النائب الذى صار يمده يدويا بالتنفس الصناعى، والذى قرر أن يجول به بين المستشفيات محاولا إنقاذه.

«.. تضغط على البالون، ورغما عنك تجد عقلك يفكر فى جدوى ما تفعل.
هل سيشكل إنقاذه فارقا أصلا؟».
تعرف جيدا أن آلافا بلا حصر يموتون سنويا فى المستشفيات الحكومية، وأن النسبة تزيد باستمرار. عام 2011 وحده شهد وفاة أكتر من 20 ألف حالة.
كل يوم وكل لحظة يموت بشر كان يمكن إنقاذهم سواء فى المستشفيات أو خارجها، وكل يوم وكل لحظة هناك فقر وجوع ومرض وألم.
هذا البلد به 11 مليونا يعيشون فى العشوائيات، منهم مليون ونصف يعيشون فى المقابر. هذا البلد به مليون ونصف من الموتى الأحياء يجاورون الموتى الأموات.
مهما فعلت فى الطب أو الكتابة أو أى مجال، هل يمكنك إحداث أدنى تغيير فى الواقع؟
التعود يقتل كل شىء.. وكذلك العبث.
تضغط على البالون وتفكر رغمًا عنك: فى هذه الظروف هل حقا لا يمكن التمييز بين إنسان وإنسان؟
ما الذى تضيفه حياة هذا الشاب لأى شخص أو له شخصيا؟ هل هو نفسه مهتم بالحفاظ عليها؟ هل حياته حياة أصلا؟ (...)
.. فَالنَاسُ مِنْ هَولِ الحَيَاة،
مَوتَى عَلَى قَيّدِ الحَيَاةْ..

موظف مكتب طوارئ الوزارة يتصل بعد ساعتين ليبشرنى بتوافر مكان فى أحد مستشفيات «الأمانة العامة» التى لا تقبل مريضا بهذه الحالة إلا بعد دفع آلاف الجنيهات. أخبره بأن المريض ليس معه أهل، فيرد باقتضاب إنه لا يمكنه مساعدتى»..

من مقال لمحمد أبوالغيط بالمصرى اليوم.

السؤال هو كيف سيغير قانون التأمين الصحى المزمع عرضه على مجلس النواب والمعروض حاليا على مجلس الدولة من هذا الوضع الذى اعتدناه حتى صرنا قتلة بالتواطؤ.

هل أسعدك الحظ ومرضت يوما فى دولة من دول العالم الأول؟ ستذهب للطوارئ فى أى مستشفى، ليفحصك الطبيب. لن يسألك عن تأمين أو فيزيتا حتى لو كنت سائحا أو مهاجرا بدون ورق رسمى. أنت مريض، وهو طبيب يمنحك من جهده وتعاطفه ويمدك بالدواء المجانى كى تشفى، حتى تشفى. هذا هو التأمين الصحى الشامل كما تعرفه جميع الدول المتقدمة والناشئة.
القانون، الذى اضطلعت على نسختيه الأولى والأخيرة، مصمم بحيث تشترى هيئة عامة موحدة خدمة الصحة من جميع المستشفيات والعيادات القائمة عامة وخاصة، طالما كانت على مستوى من الجودة يؤهلها للقبول. أى يحاول القانون أن يعظم الاستفادة من البنية الصحية القائمة اليوم على القطاع الخاص، والذى لا يخضع حاليا لأى تنظيم أو رقابة فعالة، لا على جودة ولا إتاحة ولا تسعير الخدمة.
وهكذا، تصبح تلك الهيئة المشترى الأكبر لخدمات العلاج من السوق، يعنى ذلك أن جميع تلك المؤسسات سوف تتنافس فيما بينها كى تحظى بإمكانية بيع خدماتها إلى تلك الهيئة لعلاج أكبر عدد ممكن من المرضى.
ووفقا للمشروع، يفرض على كل المصريين دفع اشتراكات بحسب دخلهم، ما عدا غير القادرين، تدفع الدولة عنهم اشتراكاتهم. وهكذا تتحقق الكفاءة والرشادة باستخدام كل البنية الصحية المتاحة وجعلها متاحة لعلاج الجميع تحت مظلة موحدة.

كيف يكون النظام الجديد لصالح الحكومة؟

من الممكن أن يوفر النظام المقترح إنفاقا حكوميا أكثر عدالة وكفاءة، ويحقق الرضا من قبل ملايين المصريين.
فى مصر، هناك 600 مستشفى عام فى مقابل 2000 خاص، كما أن هناك 20 ألف عيادة خاصة فى مقابل 5000 وحدة حكومية.
هذا النقص المتزايد من قبل القطاع الحكومى فى البنية التحتية الصحية وفى إتاحة الخدمة قد أدى إلى أن المصريين يضطرون إلى دفع 70% من الإنفاق على الصحة من جيوبهم (من أعلى المعدلات فى العالم). وهكذا، عزف الفقراء عن العلاج، إلا حين يهدد المرض الحياة، فتكون أزمة اقتصادية لعائلة المريض، كما يحمل الدولة عبئا أكبر لعلاجه، مما لو كان قد تلقى العلاج مبكرا.
وتوجد حاليا نظم تأمين صحى مفتتة، مثل معظم الدول النامية. فإلى جانب التأمين الصحى (يغطى أقل من ربع أصحاب الأجور العاملين)، هناك تأمين على طلبة المدارس باشتراكات أقل من أن تمنحه الجودة أو الاستدامة، وعلاج على نفقة الدولة (من أموال دافعى الضرائب) لعدد محدود من الحالات المستعصية. وأخيرا، شركات التأمين الصحى الخاصة التى تقدم كل أنواع الخدمات الصحية لعدد قليل من المؤمن عليهم من العاملين بالشركات الكبرى فى القطاع الخاص (5٪ من منشآت القطاع الخاص).
يشير واحد من أهم الكتب وأحدثها (دليل أوكسفورد لاقتصادات الصحة فى أكثر من ٣٠٠٠ صفحة)، إلى وجوب أن يتحرى أى نظام للتأمين الشامل ثلاثة اعتبارات: التمويل المستدام، الكفاءة فى إدارة المنظومة، بحيث لا تتضخم أعباؤها المالية عبر الزمن والعدالة فى تقديم الخدمة للجميع. ويغيب الاعتباران الأخيران عن شركات التأمين الخاصة حول العالم. وتجسد قصة أبوالغيط وضعنا الحالى، الذى تغيب عنه الاعتبارات الثلاثة.
ليس أمر توحيد هذه البنية المصرية بسهل. يشير دليل أكسفورد إلى صعوبة إحلال نظام موحد محل أنظمة متعددة، والأسهل هو البدء من العدم. وتطول فترة الدمج بين تلك الأنظمة بحسب التجارب العالمية، إن نجحت، إلى عقد من الزمان أو أكثر. ولعل ظروف كتابة هذا القانون، وارتباطه بثورة المصريين، واشتباك العشرات من منظمات المجتمع المدنى مع قضية الصحة العامة منذ التسعينيات، تذلل الطريق.
وفيما يلى بعض المصاعب والتخوفات.

غير القادرين ما أكثرهم..

فى بلدنا يرتفع مستوى الفقر والعمل غير الرسمى إلى مستوى يصعب تصور استدامة التمويل معه عبر الاشتراكات فقط، وتتحمل الخزانة العامة (خاصة دافعى الضرائب) عبء تمويل الخدمة لما يقرب من نصف المجتمع.
وتجدر الإشارة إلى أنه لن يقل هذا العبء على خزانة الحكومة إلا بتعميم الحد الأدنى للأجر على كل القطاعات الاقتصادية، حتى العاملين باليومية، الذين يتركزون بشكل خاص فى قطاعى الزراعة والبناء، حيث يتركز أيضا الفقراء. هذا، وإلا تعرضت اقتصادات الهيئة للخطر.
لا يضع القانون تعريفا واضحا لغير القادرين، والأفضل أن يشمل: الفقراء (من يقل إنفاقه عن الحد الأدنى اللازم لتغطية احتياجاته الأساسية، بحسب تعريف الجهاز المركزى للإحصاء، أو من يقل دخله اليومى عن تغطية ما يعادل شراء سلع وخدمات بمبلغ ١.٩دولار بحسب أسعار أمريكا، وفقا للبنك الدولي) وكذلك العاطلين عن العمل.
المشروع قد يحمل الخزانة العامة أعباء أخرى، إذ تعتمد الخدمة الصحية المقترحة على نظام طبيب العائلة، أى انتشار الوحدات الصحية الأولية (العيادات). وهو النظام السائد فى معظم بلدان العالم. ولكن تفتقر مصر إلى العدد المناسب من تلك الوحدات، ويستلزم إقامتها تخصيص مبالغ كبيرة لبنائها، ثم لدفع أجور الطبيب الممرض فى كل من تلك العيادات. هذا و/أو إقناع العيادات الخاصة المنتشرة فى الأقاليم بتقديم الخدمة للجميع عبر الانضمام إلى شبكة التأمين، ولو لفترة صباحية أو لبعض أيام الأسبوع.
بشكل عام، يجدد كل ذلك لفت النظر إلى أهمية رفع موازنة الصحة إلى المعدلات العالمية، بحسب الدستور، حيث لا يليق أن يظل الإنفاق العام على الصحة فى مصر أقل من دول أفقر كثيرا مثل أفغانستان أو بوروندى.

معضلة الكيانات الثلاثة

فى رأيى أن أكبر عيوب القانون هو مشكلة الكيانات الثلاثة التى ينشئها. حيث يؤدى إلى فصل التمويل عن إدارة المستشفيات، وعن إدارة ورقابة الجودة عن طريق خلق ثلاث هيئات منفصلة، واحدة لكل مهمة. وهذا على عكس هيئة التأمين الحالية، والتى تقدم خدمة أفضل كثيرا من المستشفيات الحكومية عن طريق الجمع بين التمويل والإدارة المستقلتين عن الدولة وموازنتها.
كما يترتب على إنشاء هيئة لإدارة المستشفيات، تمول من الموازنة العامة، ولا تخضع لإشراف الوزارة (التى تدير وتمول معظم المستشفيات العامة) معضلة فى الإدارة وقد تفضى إلى تضارب فى الاختصاصات واحتكاكات سياسية تهدد النظام.
كما أن تلك الهيئة لا تخضع بأى شكل للهيئة المسئولة عن التمويل، وبالتالى لن تتمكن الأولى من التنسيق ولا من الرقابة على الإنفاق على تلك الشبكة الواسعة من آلاف الوحدات.
وأيضا يغيب عن القانون تماما أى ذكر للجان تلقى الشكاوى من قبل المواطنين المرضى، وهى آلية شعبية فعالة للتطوير الدائم للخدمة.
القصد أن الأجدر أن هو تكون هيئة التأمين الصحى هى الجهة العليا المسئولة عن الهيئتين الملحقتين. فهذا أقل تكلفة، ويضمن أن تتوحد السياسات والرؤى ويكون مصدر المساءلة واحدا فى كل الأمور المتعلقة بالخدمة الصحية. تلك الكيانات الثلاثة هى كعب أخيل، أو نقطة الضعف التى ينفذ منها اللوبى الذى أتحدث عنه حالا، فيفشل المشروع الحلم.
القانون ليس بمثالى، كما عرضت بإيجاز. وقد امتدت قائمة الاعتراضات أكثر حين فتحت حوله حلقات مناقشات مجتمعية ومتخصصة مثمرة، خلال الأشهر الستة الماضية، فى حادثة مباركة هى الأولى من نوعها فى مصر. ولكن السؤال هو هل نرفضه أم نؤيده وندعمه على علاته؟

المعركة لم تبدأ بعد

مما سبق، يمكن القول إن أهم المعارضين للتأمين الشامل هم المضارون من تطبيقه، وهم شركات الدواء وشركات التأمين الخاص، وكلتا الفئتين من الشركات العالمية العملاقة ذات النفوذ الجبار فى جميع الدول.
مثلا، لوبى شركات الدواء يستفيد من تقسيم سوق المشترين إلى وحدات متفرقة (الوضع الحالي)، كى يتحكم فى الأسعار. فى حين ينقلب مركز القوة فى صالح هيئة التأمين الصحى، حين تصبح جهة واحدة هى المشترى الأكبر للدواء (أهمية توحيد مظلة الهيئات الثلاثة).
أيضا، شركات التأمين الخاص، سوف تواجه بمنافس كبير سوف يحرمها من معظم زبائنها، ما لم تقم بتقديم حزم خاصة للعلاج للأغنياء، وحزم تأمين تكميلية تغطى ما لا يغطيه التأمين الصحى الشامل. لكن، لا أحد يحب أن يغير نموذج توليد الربح business model الذى اعتاد عليه.
تلك اللوبيهات العالمية، هى ضمن الأقوى نفوذا فى مصر، لعدم نضوج المؤسسات الرقابية وتردى أوضاع الديمقراطية التشاركية، مقارنة بالبرازيل والهند وجنوب أفريقيا والصين. فإذا كان هذا القانون يغضبهم، فاعلم أنه فى صالح القاعدة العريضة من المواطنين والعكس.
تحارب تلك الشركات من أجل الانقلاب على التأمين الشامل، داخل الغرف المغلقة فى دهاليز الحكم. الأمل هو أن تندحر تلك المحاولات لتتحقق الثورة الصحية. وأى خطوة تقربنا من هذا الأمل، هى أفضل من الوضع الحالى. ولتكن لنا فى نظام أوباما للتأمين الصحى «أوباما كير». عبرة، حين هاجمها اليمين واليسار. الأول لارتفاع عبئها على الدولة والثانى لأنها لا تلبى حلم الصحة للجميع بما يكفى.

تم نشر هذا المقال عبر موقع الشروق الإلكتروني بتاريخ 14 أبريل 2017