متى تتوقف الانتهاكات داخل أماكن الاحتجاز فى مصر ؟

22 أبريل 2014

بالرغم من تصريحات النفي المتكررة من وزارة الداخلية عن وقوع أي تعذيب في السجون وأماكن الاحتجاز الأخرى أو قصر ما يحدث على أنه ممارسات فردية لبعض أفراد وضباط الشرطة، إلا أن هناك الكثير من التقارير الحقوقية والشهادات التي تؤكد استمرار التعذيب بالسجون وأماكن الاحتجاز بمصر بصورة منهجية في مناخ يساعد على الإفلات من العقاب، وهذا يرجع إلى عدم وجود إرادة سياسية لنظام الحكم في مصر لمنع جريمة التعذيب ووجود فجوات تشريعية وقانونية وممارسات عملية تؤدي إلى تفشي التعذيب وإفلات مرتكبيه من رجال السلطة العامة، من العقاب.

فالتعذيب وسوء المعاملة مستمران في مصر رغم تغير الحكومات، وتم توثيقهم في عهد حسني مبارك والمجلس العسكري ومحمد مرسي والحكومة الحالية. وبعد الثلاثين من يونيو نشرت العديد من التقارير والشهادات عن وقوع التعذيب في السجون و مراكز الشرطة ومعسكرات الأمن المركزي وأماكن احتجاز أخرى. والطرق الأكثر استخدامًا في التعذيب وفقًا للشهادات هي الضرب بآلات وأدوات صلبة والصعق بالكهرباء والتعليق. ويكون المحتجزون أكثر عرضة للتعذيب في أثناء لحظة القبض عليهم، وفي بداية فترة الاحتجاز، وهذا لا ينفي وقوع التعذيب بداخل السجون في أثناء تنفيذ العقوبات، ولا يقتصر التعذيب على فئة بعينها من المساجين سواء كانوا جنائيين أم سياسيين، وما قد يقي مسجونًا ما من التعرض للتعذيب هو قدرته على نشر ما قد يتعرض له للرأي العام.

ومن اللافت للنظر بتصريحات مسئولي وزارة الداخلية بنفي وجود تعذيب أو إساءة معاملة بالسجون، أنهم يتحدثون دائمًا عن السجون التي يشرف عليها قطاع مصلحة السجون والبالغ عددها اثنان وأربعون سجنًا على مستوى جمهورية مصر العربية في حين أن أماكن الحجز الملحقة بأقسام الشرطة والنقط الشرطية ومعسكرات الأمن المركزي وغيرها من الأماكن الأخرى- غير المجهزة كسجون، التي لا تصل إليها مخصصات مصلحة السجون للمساجين من مأكل وملبس، ولا يوجد بها طبيب سجن - تتحول إلى سجون مركزية بمجرد صدور قرار من وزير الداخلية. وهناك الكثير من القرارات الصادرة من وزراء الداخلية المتعاقبين بتحويل هذه الأماكن إلى سجون مركزية، وبالتالي يتم إيداع المواطنين بها لفترات تصل إلى ثلاثة أشهر، ومن الممكن إيداع الأشخاص الذين يكونون محلًا للإكراه البدني تنفيذًا لأحكام مالية، وذلك وفقًا لما تقرر بالمادة الرابعة من قانون تنظيم السجون رقم 396 لسنة 1956. وفي الواقع، فإنه منذ أحداث 30 يونيو, هناك عدد كبير من المحبوسين احتياطيًّا أودعوا لفترات طويلة وصلت إلى شهور أقسام شرطةٍ تحولت إلى سجون مركزية مع صدور قرارات من وزير الداخلية، وتعرضوا فيها للضرب أو لضروب أخرى من سوء المعاملة والتعذيب.

وهناك العديد من الأسباب التي تفسر استمرار التعذيب في مصر من ضمنها الخلل التشريعي، عدم تطبيق القوانين الموجودة، عدم وجود أي مراقبة مستقلة على أماكن الاحتجاز، السلطات الواسعة لدى وزارة الداخلية وتسامح الحكومات المتوالية مع التعذيب. وفيما يلي استعراض لبعض هذه الأسباب المؤدية إلى استمرار التعذيب.

أولًا: عدم الالتزام بالتعهدات الدولية

التعذيب بجميع صوره وأشكاله، جريمة لا تسقط بالتقادم. هذا هو نص المادة الثانية والخمسين من دستور جمهورية مصر العربية الصادر في العام 2014، ولكن ما هو الفعل الذي يعتبره قانون العقوبات المصري تعذيبًا؟ جاءت إجابة هذا السؤال بنص المادة 126 من قانون العقوبات حيث جاء بها أن: "كل موظف أو مستخدم عمومي أمر بتعذيب متهم، أو فعلَ ذلك بنفسه لحمله على الاعتراف يعاقب بالأشغال الشاقة أو السجن من ثلاث سنوات إلى عشر سنوات، وإذا مات المجني عليه يحكم بالعقوبة المقررة للقتل عمدًا"، ومعنى هذا النص أن الموظف أو المستخدم العمومي لا يكون مرتكبًا لجريمة التعذيب إلا إذا كان المعتدى عليه متهمًا، وإلا إذا كان الاعتداء الواقع عليه من الموظف أو المستخدم العام بقصد الحصول على اعتراف، فإذا لم يتوفر هذان الشرطان لا يقدم الموظف العام إلى المحاكمة بتهمة التعذيب وبالتالي فإن من يتعرض للتعذيب من المحكوم عليهم والمودعين بالسجون لا يمكن أن يحاكم معذبوهم بنص هذه المادة لأنهم قد زالت عنهم صفة الاتهام بالحكم عليهم ولعدم توفر قصد الحصول على اعتراف منهم من مسئولي السجون. وفى الحالات النادرة التي يفتح فيها تحقيق في مزاعم التعذيب أو يحال رجل من رجال الشرطة إلى المحاكمة فإن ذلك يكون بتهمة استعمال القسوة أو الضرب المفضي إلي الموت، والعقوبات المقررة لتلك الأفعال أو الجرائم بقانون العقوبات أيسر وغير مغلظة بالمقارنة بالعقوبة المقررة لجريمة التعذيب بنفس القانون.

ومع هذا فإن التمسك بالتعريف السابق للتعذيب، الوارد بقانون العقوبات لا يتماشى مع الدستور المصري والتزامات مصر الدولية وذلك لكون دستور جمهورية مصر العربية ينص في المادة 93 منه على أن تلتزم مصر بالاتفاقيات والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان التي تصدق عليها مصر وتصبح لها قوة القانون بعد نشرها وفقًا للأوضاع المقررة.

وإذا ما طالعنا واحدة من هذه الاتفاقيات التي وقعت عليها مصر وأصبح لها قوة القانون بنص الدستور المصري وهي اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، فسنجدها قد عرَّفت التعذيب بأنه: "أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد، جسديًّا كان أم عقليًّا، يلحق عمدًا بشخص ما بقصد الحصول من هذا الشخص، أو من شخص ثالث، على معلومات أو على اعتراف، أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في أنه ارتكبه، هو أو شخص ثالث أو تخويفه أو إرغامه هو أو أي شخص ثالث – أو عندما يلحق مثل هذا الألم أو العذاب، لأي سبب من الأسباب يقوم على التمييز أيًّا كان نوعه، أو يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص آخر يتصرف بصفته الرسمية. ولا يتضمن ذلك الألم أو العذاب الناشئ فقط من عقوبات قانونية أو اللازم لهذه العقوبات أو الذي يكون نتيجة عرضية لها".

ومع وجود هذا التعريف لجريمة التعذيب باتفاقية دولية صدقت عليها مصر ونشرت بالجريدة الرسمية، ومع وجود التزام دولي على مصر بموجب المادة الرابعة من الاتفاقية بوجوب ضمان كل دولة طرف في الاتفاقية، أن تكون أعمال التعذيب جرائم بموجب قانونها الجنائي، وينطبق الأمر ذاته على قيام أي شخص بأية محاولة لممارسة التعذيب وعلى قيامه بأي عمل آخر يشكل تواطؤًا ومشاركة في التعذيب، وأن تجعل كل دولة طرف في الاتفاقية هذه الجرائم مستوجِبة للعقاب بعقوبات مناسبة تأخذ في الاعتبار طبيعتها الخطيرة، فإنه يجب إعمال هذا التعريف وتعديل التعريف القاصر المنصوص عليه بقانون العقوبات وذلك إعمالًا لما جاء بنص الدستور المصري في مادته الثالثة والتسعين التي تُلزم الدولة بالاتفاقيات والمواثيق الدولية التي تصدِّق عليها.

وبسبب هذه الإشكالية وقصور تعريف التعذيب الوارد بالمادة 126 من قانون العقوبات المصري بالإضافة إلى عدم وجود إرادة سياسية لمحاسبة الجناة، لم يُعاقب مسئول واحد بجمهورية مصر العربية على مدار ثلاثين سنة أو أكثر بعقوبة التعذيب المنصوص عليها بهذه المادة، وفي الحالات المعدودة التي استطاع فيها المجني عليهم إثبات وقوع التعذيب عليهم من ضباط أو أفراد شرطة كانت المحاكمة تتم بتهمة "إساءة استعمال سلطة"، أو "ضرب أفضى إلى موت"، أو "استعمال قسوة"، أما عقوبة جريمة التعذيب حسب التعريف القاصر الوارد بقانون العقوبات فدائمًا ما يكون من المستحيلات محاكمة الجناة بموجبها.

ورغم أن الدستور المصري وقانون الإجراءات الجنائية يقران بأن المعلومات أو الاعترافات المتحصل عليها نتيجة للتعذيب تهدر ولا يعول عليها، إلا أنه لا يوجد أي نص قانوني صريح يجرم فعل استخدام هذه المعلومات لإدانة شخص ما، بالإضافة إلي تجريم فعل التعذيب ذاته. فهناك حظر لاستخدام المعلومات المتحصلة عن التعذيب أو الإكراه وليس هناك عقوبة على كسر هذا الحظر والقيام باستخدام تلك المعلومات أو الاعترافات لإدانة الأبرياء، والأمثلة على ذلك كثيرة، ومتعددة سنذكر ثلاثة منها وقعت بفترات زمنية مختلفة.

الواقعة الأولي : واقعة مقتل المجني عليه "أحمد محمود محمد تمام" بقسم شرطة العمرانية بتاريخ 12 من يوليو 1999، على يد المقدم "عرفة حمزة" رئيس مباحث قسم العمرانية وقتها، وقد حكم على رئيس المباحث بتاريخ 19/12/2002 بالحبس سنة مع الشغل بتهمة "استعمال القسوة" وقضى عقوبة الحبس وخرج بعدها وعاد إلى عمله بجهاز الشرطة وتم ترقيته إلى رتبة اللواء ويعمل حاليًّا مديرًا للمباحث الجنائية بمحافظة القليوبية.

الواقعة الثانية : وهي الواقعة الأشهر في مصر لمقتل الشاب السكندري "خالد سعيد" عام 2010، تلك الواقعة التي حكم فيها بشهر أبريل 2014 من محكمة الجنايات على اثنين من المخبرين بالسجن المشدد لمدة عشر سنوات بتهمة "الضرب المفضي للموت" لكلٍّ منهم بعد أن أعيدت المحاكمة أمام دائرة أخرى غير التي كانت قد حكمت في السابق بالحكم بسبع سنوات وذلك بعد قبول طعن النيابة بطريق النقض في الحكم الأول.

الواقعة الثالثة : ما حدث يوم 14 من أكتوبر 2007 من قيام كل من "شريف سمير أحمد متولي" و"أحمد سمير شعبان" و"حازم بلتاجي إبراهيم" الضباط بقسم ثاني السادس من أكتوبر باحتجاز المواطن "شادي ماجد سعد زغلول" بدون وجه حق والاعتداء عليه بالضرب وتعليقه وتلفيق تهمة له حصل فيها على البراءة، وقد أحيل الضباط الثلاثة إلى محكمة جنح 6 أكتوبر في القضية رقم 11933 لسنة 2009 بتهمة ضرب المجني عليه وصدر ضدهم الحكم بحبس كل منهم شهرًا مع الشغل وتم تأييد الحكم بالاستئناف رقم 20651 لسنة 2010 بتاريخ 22 سبتمبر 2010 وقضوا عقوبة الحبس ثم عادوا جميعًا للعمل بوزارة الداخلية كضباط شرطة.

ثانيًا: غياب تفعيل الإشراف القضائي علي السجون

الإشراف المستقل هو من أهم الضمانات ضد التعذيب وسوء المعاملة وقد جاء بنص المادة 56 من الدستور المصري أن: "السجن دار إصلاح وتأهيل. تخضع السجون وأماكن الاحتجاز للإشراف القضائي، ويحظر فيها كل ما ينافي كرامة الإنسان، أو يعرِّض صحته للخطر. وينظم القانون أحكام إصلاح و تأهيل المحكوم عليهم، وتيسير سبل الحياة الكريمة لهم بعد الإفراج عنهم."

وقد اهتم المشرِّع المصري بإفراد نصوص قانونية لتفعيل الضمانة الدستورية بإخضاع السجون وأماكن الاحتجاز للإشراف القضائي إلا أن هذه النصوص والقوانين لا تجد تفعيلًا حقيقيًّا في الواقع العملي، فالمادة "42" من قانون الإجراءات الجنائية تنص على أن "لكلٍّ من أعضاء النيابة العامة ورؤساء ووكلاء المحاكم الابتدائية والاستئنافية، زيارة السجون العامة والمركزية الموجودة في دوائر اختصاصهم، والتأكد من عدم وجود محبوس بصفة غير قانونية، ولهم أن يطلعوا على دفاتر السجن وعلى أوامر القبض والحبس وأن يأخذوا منها صورًا، وأن يتصلوا بأي محبوس ويسمعوا منه أي شكوى يريد أن يبديها لهم."

وتنص المادة 85 من قانون السجون على أنه للنائب العام ووكلائه حق دخول جميع أماكن السجن في أي وقت، وتقرر المادة 86 من ذات القانون أنه لرؤساء ووكلاء محاكم الاستئناف والمحاكم الابتدائية وقضاة التحقيق حق الدخول في كل وقت السجون الكائنة في دوائر اختصاص المحاكم التي يعملون بها ولرئيس ووكيل محكمة النقض حق الدخول في جميع السجون وعلى إدارة السجن أن تبلغ الملاحظات التي يدونوها إلى المدير العام.

وكذلك تنص المادة 27 من قانون السلطة القضائية على أن تتولى النيابة العامة الإشراف على السجون وغيرها من الأماكن التي تنفذ فيها الأحكام الجنائية، ويحيط النائبُ العام وزيرَ العدل بما يبدو للنيابة العامة من ملاحظات في هذا الشأن. هذا فضلًا عن مراقبة ومراعاة ما تقضي به القوانين واللوائح، واتخاذ ما يرونه لازمًا بشأن ما يقع من مخالفات، وقبول شكاوى المسجونين وفحص السجلات والأوراق القضائية الخاصة، للتحقق من مطابقتها للنماذج المقررة.

وقد جاءت التعليمات العامة للنيابات لتوضح طرق وكيفية إجراء النيابة العامة لعملية التفتيش على السجون وأماكن الاحتجاز في المواد من المادة 1747 إلى 1750 وقد تحدد بهذه المواد وجوب أن يقوم المحامون العامون أو رؤساء النيابات الكلية أو من يقوم مقامهم بتفتيش السجون العمومية التي تقع في دائرة اختصاص كل منهم وعلى رؤساء النيابات الجزئية أو مديريها تفتيش السجون المركزية وأماكن الحجز التابعة لهم على أن يكون ذلك مرة على الأقل شهريًّا.

رغم هذه الصلاحيات فإن النيابة العامة لم تقم بزيارة أماكن الاحتجاز بصورة دورية.

ومع تواتر وكثرة الشكاوى الخارجة من السجون في الفترة الأخيرة عن وقوع انتهاكات داخل أماكن الاحتجاز جاءت تصريحات النفي من وزارة الداخلية دون أي تصريح أو تعليق من النيابة العامة التي يُلزمها القانون بإجراء تفتيش على السجون وأماكن الاحتجاز مرة واحدة على الأقل شهريًّا، سوى البيان الصادر عن النيابة العامة بتاريخ 19 من فبراير 2014 عن نتائج التفتيش المفاجئ الذي أجرته على أربعة سجون عمومية، من أصل 42 سجنًا بجمهورية مصر العربية، بالإضافة إلى مئات من أماكن الاحتجاز الأخرى المنشأة بقرارات من وزراء الداخلية المتعاقبين كأماكن الحجز الملحقة بأقسام الشرطة والنقط الشرطية ومعسكرات الأمن المركزي وغيرها من الأماكن، الأمر الذي لا ينم سوى على أن تلك النصوص القانونية وتلك الضمانة الدستورية بخضوع كافة السجون وأماكن الاحتجاز للإشراف القضائي، ماهي إلا مجرد نصوص ومواد لا تجد لها طريقًا إلى التفعيل على أرض الواقع، فنحن بحاجة إلى تفعيل هذه النصوص بأن تقوم النيابة العامة بإجراء تفتيش مفاجئ مرة على الأقل شهريًّا وأن تقوم بإصدار نتائج هذا التفتيش في صورة تقرير عن أوضاع السجون شهريًّا وبشكل دوري.

وهناك بعض الأخبار التي تداولتها وسائل الإعلام أن من بين أسباب عدم قيام النيابة العامة بدورها في التفتيش والرقابة على السجون، تعرض أعضاء النيابة للإهانات والمعاملة السيئة من ضباط الشرطة حين يقومون بالتفتيش دون عقاب يلقاه الضباط جراء تعديهم، فضلاً على التعدي اللفظي من الضباط أو من السجناء بتحريض من الضباط.2

ثالثًا: غياب أي نوع من أنواع الرقابة المستقلة علي السجون

مع أهمية الإشراف القضائي على السجون وضرورته القصوى للحد من الانتهاكات والتجاوزات التي تحدث بداخل السجون إلا أن هذا لا يغني عن وجود رقابة مستقلة على السجون من مؤسسات المجتمع المدني، ليس فقط لمواجهة ما قد يحدث من تعذيب وإساءة معاملة للسجناء ولكن للعمل على تحسين ظروف الحياة داخل السجون لكون هذا الأمر هو العامل الأكثر تأثيرًا في تحقيق الهدف الرئيسي من تنفيذ العقوبات السالبة للحرية وهو إصلاح المحكوم عليهم لإعادة إدماجهم في المجتمع. ولا يمكن أن يتم هذا الإصلاح في ظل ظروف وأوضاع معيشية سيئة بداخل السجن ولهذا فلابد أن تبادر الحكومة المصرية بالتوقيع على البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب والذي يلزم الدول الموقعة عليه بإنشاء آلية مستقلة لمراقبة أماكن الاحتجاز. وقد وقعت عديد من الدول العربية على هذا البروتوكول، كان آخرها دولة تونس وأنشئ بتونس بالفعل فريق وطني لمراقبة أماكن الاحتجاز وصدر قانون بهذا الأمر.

أما بجمهورية مصر العربية فيسمح للمجلس القومي لحقوق الإنسان في بعض الأحيان بزيارة السجون لكنها تكون زيارات بعد الحصول علي إذن مسبق من النائب العام أو وزارة الداخلية وبميعاد محدد للزيارة، ولهذا لا يمكن أن نطلق على زيارات المجلس القومي أنها زيارات تفتيش شاملة أو نستطيع القول أنها تضمن بفاعلية منع وقوع تعذيب أو سوء معاملة في أماكن الاحتجاز.

نحو طريقة فاعلة لضمان منع التعذيب في أماكن الاحتجاز

مع وجود كل تلك الضمانات والقوانين التي إذا تم تفعيلها على أرض الواقع ستؤتي ثمارها في الحد من التعذيب وسوء المعاملة داخل السجون وأماكن الاحتجاز، فلماذا لا يدرس المشرع المصري تبنى نظام "قاضى تنفيذ العقوبة"، ومن المفترض أن العلاقة بين المتهم والقاضي لا تنتهي بعد النطق بالحكم، وانتهاء هذه العلاقة هو الخطأ الفادح الذي يحدث في تنفيذ العقوبات في مصر، إذ أنه بمجرد إصدار الأحكام الجنائية يتم تسليم المتهم لوزارة الداخلية وإدارات السجون، لتنفيذ العقوبة بغير وجود أي رقابة حقيقية ودون ولاية فاعلة للقضاء الجنائي بالنظر في المنازعات والمشكلات المتعلقة بهذا التنفيذ.


خلفية عن الاحتجاز و التعذيب

السجون وأماكن الاحتجاز هي تلك الأماكن التي تُقَيَّد بها حرية الإنسان ويكون بمعزِل عن العالم الخارجي بأي صورة من الصور، ويكون وجود إنسان بالسجن أو مكان الاحتجاز تنفيذًا لعقوبة أو تنفيذًا لأمر بالحبس الاحتياطي، نتيجةً لجُرم ما، يكون قد ارتكبه، يمثل مخالفةً للقوانين، ومَفاد ذلك أن السجون وأماكن الاحتجاز ترتبط في الأساس بتوقيع عقوبة على شخص ما، وقد ارتبط التعذيب من قديمٍ بالعقوبات، فقد كانت العقوبات بالحضارات القديمة كالحضارة الفرعونية والحضارة الإغريقية ـ في الأساس ـ إحداث إيلام بدني بالجاني أو المتهم وكانت تلك العقوبات قانونية وليس بها ما يشين منفذيها، كالحكم على شخص ما بالعمل بالسخرة أو جدع الأنف أو قطع الأذنين.

ولم يكن التعذيب يقتصر على توقيع العقوبات البدنية على المحكوم عليهم، أو من تثبت إدانتهم فقط، بل كان التعذيب قديمًا وسيلة من وسائل التحقيق وانتزاع الاعترافات واستخلاص المعلومات، وكان اللجوء إليه شيئًا مألوفًا في حالة الاشتباه في ارتكاب الجرائم، وكان التبرير الذي يُساق لهذه الأفعال هو أنه الوسيلة الوحيدة للقضاء على الفساد ولو بطريقة ساديه ووحشية، وحقيقة الأمر أن هذا التبرير لم يعد مقبولاً ليس فقط بسبب انتشار ثقافة ومبادئ حقوق الإنسان، ولكن لأنه ثبت عمليا انه وسيلة فاشلة للوصول إلى الحقيقة حول جريمة أو انتهاك قانوني ما، كما أن المعلومات التي يدلي بها المشتبه به، وخاصة البريء، تحت التعذيب كثيرا ما تكون مختلقة للإفلات من الألم الرهيب الذي يتعرض له الضحية.

وفي القرن الثاني عشر ومع التقدم الإنساني المطرد في التثقيف والتعليم والتطور ضعفت بالتدريج الطقوس القديمة ليحل محلها نظام التحقيق وترجيح الالتجاء إلى التحليل بحثًا عن الحقيقة، ولما استقر نظام التحقيق كان لا بد من أن يتطور معه نظام الإثبات وحصر الأدلة.

وفي منتصف القرن الماضي زال الإكراه من وسائل التحقيق القانوني في بعض البلاد، وعلميًّا لم يعد له وجود تشريعي في اغلب بلاد أوربا الغربية منذ نهاية القرن التاسع عشر. فاعتُبِر أثرًا من أثار الماضي، حتى استعادت هذه الوسيلة مجدها في عهد الحكم النازي في ألمانيا في الثلاثينيات حيث أجاز نظام الحكم الالتجاء إلي التعذيب حتى الموت في التحقيقات. ”معاملة المسجونين في ضوء قواعد ومبادئ القانون الدولي العام- د. محمد مصطفي يونس- دار النهضة العربية 2007.”

وبانتهاء الحرب العالمية الثانية انتهى المجتمع الدولي إلي ضرورة عدم الالتجاء أو العودة إلي التعذيب والإكراه البدني فصدر الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948 ليتضمن حظر الالتجاء إلى التعذيب بين أشياء أخرى، وبعد ذلك توالت المواثيق والعهود الدولية التي تحظر التعذيب، ومن أهم هذه العهود والمواثيق:-

1- العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية "اعتمد وعرض للتوقيع والتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 2200 ألف (د-21) المؤرخ بـ16من ديسمبر 1966 وبدأ في النفاذ بتاريخ 23 من مارس 1976 وفقًا لأحكام المادة 49 منه وقد وقعت مصر عليه بتاريخ 4/8/1967 وصدقت بتاريخ 14 يناير 1982 وأصدرت عند انضمامها الإعلان التالي :( مع الأخذ في الاعتبار أحكام الشريعة الإسلامية وعدم تعارضه معها)، وانضمت مصر إلى هذه الاتفاقية بالقرار الجمهوري رقم 537 لسنة 1981 ونشرت بالعدد رقم 14 من الجريدة الرسمية في 14 أبريل 1982."

2- العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية " اعتمد وعرض للتوقيع والتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 2200 ألف (د-21) المؤرخ بـ16من ديسمبر 1966 وبدأ في النفاذ بتاريخ 23 من مارس 1976 وفقًا لأحكام المادة 49 منه وقد وقعت مصر عليه بتاريخ 4/8/1967 وصدقت عليه بتاريخ 14 من يناير 1982 وأصدرت عند انضمامها الإعلان التالي: ( مع الأخذ في الاعتبار أحكام الشريعة الإسلامية وعدم تعارضه معها) وانضمت مصر لهذه الاتفاقية بالقرار الجمهوري رقم 536 لسنة 1981 ونشرت بالعدد رقم 15 من الجريدة الرسمية في 15 من أبريل 1982.

3- واتفاقية مناهضة التعذيب.” اعتمدت وعرضت للتوقيع والتصديق والانضمام بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 39/46 المؤرخ في 10 من ديسمبر 1984 تاريخ بدء النفاذ يونيو 1987، وفقًا لأحكام المادة 27 (1) صدقت مصر عليها 1986 (ونشرت في الجريدة الرسمية 7 من يناير 1988”

ورغم الجهد المبذول لمنع حدوث التعذيب والاتجاه العالمي إلى تجريمه إلا أن التعذيب لا يزال مستمرًّا، لم يتوقف في كثير من بلدان العالم رغم أن هناك العشرات من الأمثلة الحية والأحكام القضائية التي تؤكد أن التعذيب في نهاية المطاف، اختبار للقدرة على الاحتمال، وليس طريقة ناجحة للوصول إلى الحقيقة أو القضاء على الجريمة، بالإضافة إلى لجوء المتهم أو المشتبه به وخاصة البريء لاختلاق المعلومات للإفلات من الألم الرهيب الذي يتعرض له. وهناك أدلة عديدة على هذا منها في مصر قضية اغتيال رئيس مجلس الشعب السابق رفعت المحجوب والتي قضت فيها محكمة أمن الدولة طوارئ "الجناية رقم 546 لسنة 1990 حصر أمن الدولة العليا المقيدة برقم 95 ج أمن الدولة العليا" ببراءة كافة المتهمين رغم اعترافهم جميعا بارتكاب الجريمة، واستند الحكم على إبطال تلك الاعترافات، التي جاءت نتيجة للتعذيب الشديد الذي تعرض له المتهمين ثم قاموا بالتراجع عنها أمام المحكمة، وطالبت المحكمة المشرع بتعديل قانون العقوبات بحيث تكون مسئولية رؤساء الأجهزة الأمنية عن التعذيب مسئولية مفترضة..