البدائل الأفضل من الطاقة النووية في مصر

10 June 2020

تتجه مصر نحو بناء مفاعلات نووية لتوليد الكهرباء بينما يأفل نجمها على المستوى العالمي. فقد تم بناء أول مفاعل نووي لتوليد الكهرباء في العالم عام 1954 في الاتحاد السوفييتي. على إثره، شهد العالم مرحلة من تسارع بناء المفاعلات النووية في سياق التنافس بين المعسكرين الشرقي والغربي، استمرت حتى أواخر الثمانينات، حيث بلغت حصة الكهرباء النووية ذروتها  (بنسبة 17.5% من إجمالي إنتاج الكهرباء). لكنها منذ ذلك الحين تتراجع  على نحو متواصل، وتمثل حاليًا 10.5% فقط من كهرباء العالم (Ruedinger & Stienne, 2017)، ومرشحة لمزيد من التراجع.

من ضمن  447 مفاعلًا نوويًّا في أنحاء العالم، توقفت 43 منذ أمد طويل (Shneider et. al, 2017). ومن المتوقع إغلاق أكثر من 100 مفاعل آخر على مدى 10 إلى 15 عامًا بسبب انتهاء عمرها الافتراضي (Shneider et. al, 2017). وليس من المحتمل أن تعوض الإنشاءات الجديدة كل المفاعلات التي ستخرج من الخدمة -يوجد 53 مفاعلًا جديدًا فقط قيد الإنشاء- خصوصًا في ظل تصاعد موجات رفض الطاقة النووية في العالم، التي دفعت عدة دول إلى إغلاق مفاعلاتها. ألمانيا، على سبيل المثال، تخطط لإغلاق جميع مفاعلاتها الـ17 عام 2022 (Fertl, 2011)، كما أعلنت بلجيكا (World Nuclear News, 2018) وسويسرا (Kanter, 2011) عزمهما التخلص التدريجيًّ من مفاعلاتهما.

تأثير تشيرنوبل والحوادث النووية

تغير موقف العالم من الطاقة النووية بتغير السياق السياسي والاقتصادي بطبيعة الحال، لكن أيضًا بسبب ما تكشّف من عيوب ومخاطر الطاقة النووية. وكان لحادثة تشيرنوبل عام 1986 أثر حاسم في هذا الصدد. فلقد شاهد العالم بعينيه المخاطر الكارثية التي تنجم عن فقدان السيطرة على "المفاعلات النووية السلمية".

أطلق انفجار تشيرنوبل إشعاعات تعادل 100 ضعف قنبلتي هيروشيما وناجازاكي، وأطاح بختم المفاعل البالغ وزنه 1000 طن لعدة كيلومترات في الهواء، وأذابت الحرارة التي بلغت 2000 درجة قضبان الوقود وأشعلت حريقًا استمر عشرة أيام، وتم إخلاء مئات الآلاف من السكان، ومازالت منطقة مساحتها 30 كيلومتر محظورة على البشر لزمن غير معلوم (Fairlie & Summer, 2006).  وبعد حوالي أربعة عشر عامًا، حسب تقرير الأمم المتحدة الصادر عام 2000، ما يزال نصف مليون طفل يعيشون في المناطق المنكوبة، ويعاني 73 ألف شخص من إعاقات دائمة، وفي بعض المناطق ارتفع معدل الإصابة بسرطان الغدة الدرقية 100 مرة، (Kapp, 2000). وترسم تقديرات التقارير غير الرسمية صورة أكثر  سوءًا  (Fairlie & Summer, 2006; WISE International 2003 & 2006). 

وبينما يقدر البعض أن احتمالات وقوع حادث كبير  لا يزيد عن نسبة واحد كل 250 عام (Morris-Szuki et. al, 2012)، يقدر آخرون أن أربعة حوادث كبيرة على الأقل (Lelieveld, J. & Benner,  2012) ستحدث في الفترة من 2005 إلى 2055.  وعلى كل حال لا يقاس خطر الحوادث باحتمالات مرات تكرارها فقط، ولكن أيضًا بنوعية عواقبها. وعواقب الحوادث النووية وخيمة للغاية.

اللوكيميا حول المفاعلات 

الطاقة النووية ليست آمنة على الصحة حتى بدون حوادث. فعند تشغيل المحطات النووية، تتسرب نسبة  من المواد المُشعة إلى البيئة (National Research Council, 2012). وتسمح القوانين في البلدان المختلفة  بتسرب نسب منخفضة من هذه المواد على اعتبار أن المستويات المنخفضة من الإشعاع لا تؤثر سلبًا على صحة الإنسان (EMF and Health, 2010). غير أن ذلك لا يبدو صحيحًا دائمًا. 

فمنذ الثمانينيات من القرن الماضي تتوالى شكاوى السكان الذين يعيشون بالقرب من المنشآت النووية من زيادة الإصابة بالسرطان بين أطفالهم. وأكدت العديد من الدراسات والأبحاث على مر السنين هذه الظاهرة التي ثبتت  حول محطة سيلافيلد Sellafield   في إنجلترا  (Forman et. al, 1987) ومحطتي ألدرماستون وبيرجفيلدAldermaston and Burghfield  في انجلترا (Seymour, Hrubec, Boice, 1991) ودونريDounreay  شمال إسكتلندا (Watson, 1996)، وبالقرب من  محطة لاهاي La Hague  في فرنسا (Guizard et. al, 2001)، وفي محيط مفاعليِّ بيكرينج ودارلينجتون Pickering and Darlington  في اونتاريو بكندا (McLaughlin, et al., 1993)، وفي أماكن أخرى.

وفي عام 2008، قدمت الدراسة الألمانية الشهيرة (KiKK Study) أدلة دامغة. حيث شملت الدراسة أعداد كبيرة من الأطفال حول كافة المفاعلات النووية في ألمانيا (Kaatsch et al., 2008; Spix et al., 2008)، ووجدت زيادة قدرها 2.2 ضعفًا في الإصابة بسرطان الدم، و 1.6 ضعفًا في الإصابة بالأورام الخبيثة الصلبة بين الأطفال الذين يعيشون في نطاق خمسة كيلومترات حول المنشآت النووية عند مقارنتهم بالمقيمين خارج هذا النطاق (Vakil & Harvey, 2009).

كذلك خلص  تقرير اللجنة  التي شكلَّها مجلس البحوث القومي الأمريكي للبحث في آثار مستويات منخفضة  من الإشعاع المؤين عام 2006 إلى أنه  ليس هناك أي مستويات آمنة من مخاطر الإشعاع مهما كانت منخفضة. وأن الأطفال والنساء بوجه عام هم الأكثر عرضة للمخاطر الإشعاعية (National Research Council, 2006). 

أغلى كهرباء

 عمومًا لم تعد الحجة ضد الطاقة النووية تقتصر فقط على  المخاوف من الحوادث أو المخاطر الصحية رغم أهميتهما وأصبحت تعتمد بشكل متزايد على التكاليف العالية مقارنة مع بدائل الطاقة الأخرى، ولعل هذا هو ما حسم المعركة ضدها. توضح مقارنات سعر الكهرباء المعدل (LCOE)، الذي يضع في الاعتبار العمر الافتراضي للمنشآت، وتكاليف الإنشاء والتشغيل والصيانة وكذلك سعر الوقود المستخدم،  أن الطاقة النووية من أغلى مصادر الكهرباء.

يوضح الشكل  التالي، الذي يقارن تحليلات حسابات تكلفة الكهرباء من الطاقة النووية والفحم والغاز الطبيعي، التي  أجرتها جهات متعددة مثل إدارة معلومات الطاقة الأمريكية EIA، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT وغيرهم،  أن الطاقة النووية هي أغنى مصدر للكهرباء (.The Grid, n.d). 

رسم توضيحي (1): مقارنة تحليلات حسابات تكلفة الكهرباء من الطاقة النووية والفحم والغاز الطبيعي 

3S8T6SNeyZsSKKr-6904i_hyUJ_3SI7CimFPK04KoqOFwZvV6hYAHtQAlwfntOqM6XuxpcNzagDzNsbChT1QCI5g-pRsh9uXEjijcdrL8pVZ3igwjYeKxKdTub1Lqo5ESwIKGEN7

(المصدر: Nuclear Information and Resource Service)

 تضمن تقرير إدارة معلومات الطاقة الأمريكية (EIA) الصادر عام 2017 أيضًا أن "سعر الكهرباء المعدل" من الطاقة النووية  بلغ (90.1 دولارًا لكل ميجاوات في الساعة)، ما يعادل حوالي ضعف سعر دورة الغاز المركبة (48.3 دولارًا ) وسعر الخلايا الفوتوفولتية (46.5 دولارًا )، وثلاثة أضعاف سعر الرياح البرية (37.1 دولار). 

جدول (1): يوضح الجدول نتائج تقرير إدارة معلومات الطاقة الأمريكية (EIA) الصادر عام 2017 حول "سعر الكهرباء المعدل" لمصادر الطاقة المختلفة: 

lGDKznCYzb617K-wDDFnd-D5qUag3dqfAVJRuivsi0tcpMyZzCPp0W7E-j0jgKh2atzH6pRFmwe0h96ozXyl-5QpY36d7HBJCJXiNjRGnFp6d7N2wcqUDUG39tD3oqqjcvMKDn64

المصدر: وكالة معلومات الطاقة الأمريكية 

أثّر ارتفاع سعر الكهرباء النووية على قدرتها التنافسية في الأسواق، ففي عام 2017 أعلنت شركة ويستنجهاوس، أكبر شركات الطاقة النووية، إفلاسها بعد خسائر فادحة (Inforuptcy, n.d). كما بلغت خسائر شركة آريفا الفرنسية 12.3 مليار دولار (Schneider etal., 2017)، وسجلت 34 محطة نووية في الولايات المتحدة، من أصل 61 محطة، خسائر بلغت قيمتها 2.9 مليار دولار وفقًا لتحليل بلومبرج (Polson, 2017)،  كما فقدت كثير من شركات الطاقة النووية في أوروبا معظم قيمة أسهمها مقارنة بالسنوات العشر السابقة (Schneider et. al, 2017). 

توجد بدائل أفضل        

توليد الكهرباء من الطاقة النووية باهظ الثمن ومحفوف بالمخاطر وغير مستدام. وهناك بدائل أفضل لتوليد الكهرباء، على رأسها  الطاقة المتجددة لأنها أبقى وأرخص وأكثر أمانًا على البيئة. ففي حين من المتوقع أن تنفد مصادر اليورانيوم والوقود الأحفوري بعد عدة عقود من الزمن، فإن الموارد المتجددة وفيرة ولا تنضب. كما أسهمت التطورات التقنية في خفض أسعار الطاقة المتجددة على نحو كبير جدًا، ففي نهاية عام 2017 أصبحت طاقة الرياح تليها الطاقة الشمسية الفوتوفولتية أرخص أنواع الطاقة على الإطلاق وأعلاها جذبًا للاستثمارات، خصوصًا مع  تطور وسائل تخزين هذه الأنواع من الكهرباء.

البدائل الأفضل لمصر

 توليد الكهرباء النووية ليس أفضل خيار لمصر، فحتى إذا نحينا المخاوف الصحية ومخاطر الحوادث جانبًا، فإن المشروع يضر باستقلالية الطاقة في البلد لأنه يعتمد كلية على الخارج، لأن مصر لا تمتلك  اليورانيوم وليس لديها أي من  القدرات التقنية أو الموارد أو الكوادر البشرية لبناء وتشغيل المحطة النووية أو  للقيام  بأعمال المراقبة والتفتيش الضروريين. كما أنه اقتصاديًا الطاقة النووية أغلى مصادر الكهرباء كما رأينا. وقد قدرت تكاليف بناء المحطة النووية في الضبعة (بقدرة 4,800 ميجاوات) بنحو 30 مليار دولار أمريكي (RT International, 2015)، ما  يفوق تكاليف إنشاء محطة غاز طبيعي بنحو 12 مرة (Associated Press, 2018)، ومزارع الرياح بنحو ست مرات (Farag, 2018)، ومحطات خلايا فوتوفولتية بنحو ثلاث مرات (MoE, 2018) لتوليد نفس القدرات.     من ناحية أخرى، مصر غنية بمصادر الطاقة المتجددة خصوصًا الرياح والشمس، حيث يبلغ متوسط الساعات المشمسة حوالي 9 إلى 11 ساعة يوميًا، وشدة الإشعاع المباشر من 1,970 إلى 3,200 كيلووات/ساعة/متر مربع سنويًّا. كما تتمتع بإمكانيات كبرى من طاقة الرياح، خصوصًا في منطقة خليج السويس، حيث تصل السرعة في المتوسط بين 8 و10 متر/ثانية على ارتفاع 100 متر، كما اكتُشفت مناطق جديدة واعدة شرق وغرب نهر النيل.

من الأفضل لمصر توجيه الاستثمارات والموارد والدعم نحو الاستثمار في الطاقات المتجددة الوفيرة لديها بدلًا من الطاقة النووية، خصوصًا في ظل تغيرات عالمية من الانصراف عن الطاقة النووية وصعود الطاقات المتجددة في سياق حماية البيئة ومقاومة التغير المناخي. 

يشير تقرير الوكالة الدولية للطاقة المتجددة في 2018 إلى أن مصر تمتلك القدرة على توفير 53% من مزيج الكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة بحلول عام 2030،  وأن ذلك   سيقلص إجمالي تكاليف الطاقة البالغ 900 مليون دولار، ويوفر سبعة دولارات من تكلفة كل ميجاوات/ساعة، إضافة إلى تقليل تلوث الهواء، الذي يقدر بحوالي  4.7 مليار دولار أمريكي سنويًّا (International Renewable Energy Agency, 2018). 

ورغم أن استراتيجية الطاقة في مصر تستهدف أن تبلغ نسبة الطاقة المتجددة 20% من  مزيج الكهرباء عام 2022، وحوالي 42% عام 2035، نحن لا نزال  بعيدين عن هذا الهدف. حاليًا تبلغ النسبة الإجمالية للطاقة المتجددة في مصر حوالي 8%، منها أقل من 2% فقط من الشمس والرياح (الشركة القابضة لكهرباء مصر). 

يتطلب تحقيق هذه الأهداف تغيير السياسات وتوجيه التمويل نحو إجراءات مثل حملات قياس شاملة لقدرات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح  لتحديد المناطق  الأفضل في الاستثمار، وتعزيز البنية التحتية لنقل الطاقة، خصوصًا بما يناسب الكميات الكبيرة من الطاقة المتجددة. بالإضافة إلى زيادة مرونة الشبكة أو اسـتخدام ما يسمى "الشبكات الذكية"، وتطوير خطة لتحسين إمكانات التصنيع المحلية. ومن المهم أيضًا تسهيل الإجراءات الإدارية وتوحيدها، وتسهيل الملاءمة المالية، وتوفير الضمانات المصرفية وغير ذلك.

تستطيع مصر من خلال تطوير استراتيجياتها وسياساتها بشكل صحيح  تحقيق هذه الأهداف والمكاسب وتعزيز أمن الطاقة في البلاد دون الحاجة إلى استخدام  الفحم أو الطاقة النووية (IRENA, 2018).

المراجع:

تم نشر هذا المقال عبر موقع حلول للسياسات البديلة،  الجامعة الأمريكية بتاريخ 9 يونيو 2010