عن الفحم والصحة والعدالة والمستقبل

9 June 2014

تناول مقال «فحم وأشياء أخرى»، الذي نُشر في «مدى مصر» بتاريخ 4 مايو 2014، للزميل العزيز أكرم إسماعيل، قضية استخدام الفحم بجدية كما وعدنا، وأيضا بإخلاص. فهو يتناول موضوع الفحم، من منطلق البحث عن حلول للخروج من أزمة الطاقة، والخروج من التخلف، حيث لا تنمية بدون طاقة. واعتبر الكاتب أن تنويع مصادر الطاقة ضرورة، ليس فقط لمواجهة النقص، ولكن لمواجهة الضغوط التي يفرضها السياق العالمي علينا، كما نعى استمرار نفس الأساليب العتيقة للنظام السابق، في إدارة الأمور، بشكل يغلق الطريق ﻷي تفاوض رشيد حول المستقبل، وقرر، عن حق، أن أخطر ما في قضية الفحم والطاقة، هو أن الدولة وأجهزتها، تعمل بالأساس على ترضية قلة من أصحاب المصالح على حساب ملايين المواطنين.

ولهذا فاجأنا الكاتب حقا في انحيازه لاستخدام الفحم، والذى اعتبره، ليس فقط حلًا مناسبا لأزمة الطاقة، ولمواجهة احتكارات السوق، ولكن أيضًا، فرصة وخيار استراتيجي لدفع الاقتصاد، حيث سيؤدي استخدامه لتدعيم البنية التحتية، ولبناء قدراتنا التقنية. وقد توصل المقال لهذه النتيجة، بعد سلسلة من الافتراضات، تدور حول أن نقص الوقود، هو السبب وراء ضعف التصنيع، وأنه يجب استحداث مفهوم تنوع مزيج الطاقة في مصر، أن الفحم هو الإمكانية الملائمة لرخص سعره وسهولة اكتساب تقنيات تشغيله، وأنه سلعة في رواج مستمر، وأن أضراره الصحية والبيئية محدودة، وأن بدائل الطاقة الجديدة والمتجددة غير ممكنة، لارتفاع أسعارها، وأنها تجعلنا أكثر عرضة للاستغلال الأجنبي.

وأنا أعتقد أن بعض هذه الافتراضات، ربما بُنيت على معلومات غير كاملة، كما أعتقد أن التحليل ربما يكون قد منح الأفضلية لاعتبارات النمو الاقتصادي، دون الاهتمام الكافي بالتكامل المطلوب والضروري لعناصر التنمية البيئية والبشرية أيضا، والخيارات السياسية المرتبطة بها.

يرتبط رفض الفحم لصالح الطاقة الجديدة والمتجددة، بالإنحياز للتنمية المستدامة، والعدالة الاجتماعية وحماية البيئة وصحة الإنسان، والاستغلال الأمثل للموارد المحدودة على الكوكب، وتعديل أنماط الإنتاج والاستهلاك، ومواجهة كارثة التغير المناخي، ويرتبط كذلك بالإنحياز للسيطرة الوطنية على موارد الطاقة، وتحسين فرص الأجيال القادمة ومستقبلنا، وحماية القطاعات الاقتصادية الأخرى في الدولة، وموارد عيش السكان، وبالمشاركة السياسية الحقيقية والحكم الرشيد وبالديمقراطية.

وسأتناول بالتعليق بعض النقاط الرئيسية التي وردت في المقال، في محاولة لتوضيح وجهة نظري.

أزمة الطاقة والتصنيع والتنمية

لا جدال في أننا نعاني حاليا من أزمة شديدة في مصادر الطاقة، والتي يعتبر نقص إنتاج الكهرباء أحد مظاهرها. ومن الصحيح أيضا أن نصيب الاستهلاك الصناعي من الكهرباء، أقل من الاستهلاك المنزلي «الغسالات والمكيفات»، كما ذكر الكاتب، فيما يوحي بحرمان القطاع الصناعي من الطاقة التي يحتاجها لحساب المنازل. ولكن الكهرباء في الواقع ليست أهم موارد الطاقة بالنسبة للقطاع الصناعي، الذي يستحوذ بالفعل على المركز الأول في استهلاك البترول ومشتقاته والغاز (يليه قطاع النقل، ثم القطاع المنزلي). وفوق ذلك يحصل القطاع الصناعي على هذه الطاقة، بما في ذلك الكهرباء، بأسعار مدعومة من الميزانية العامة للدولة. على سبيل المثال، يستهلك القطاع الصناعي حوالي 80% من إنتاج السولار بشكل مباشر وغير مباشر، الذي يستهلك بدوره نصف ميزانية دعم الطاقة، التي تزيد على 100 مليار جنيه سنويا. وحتى الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، مثل الأسمنت والأسمدة، تستفيد من هذا الدعم بما في ذلك ذات رأس المال الأجنبي ومصانع المناطق الحرة، التي تصدر كامل إنتاجها للخارج.

رغم هذا، ورغم قائمة كبيرة من "التسهيلات" التي تقدم "لتشجيع" المستثمرين، يظل القطاع الصناعي ضعيف، لأسباب تتخطى نقص الطاقة. فالقطاع الصناعي يعاني من ضعف الاستثمار المحلي، والاعتماد الشديد على الاستثمار الأجنبي، وانخفاض جودة المنتجات وغياب الكوادر المؤهلة، بسبب تدهور التعليم والبحث العلمي، ولا ريب أن الفساد والسياسات الاقتصادية الفاشلة تضاف لهذه الأسباب. وتتصف الصناعة المصرية بمعدلات هدر عالية، وعدم كفاءة في استخدام الموارد، وبتلويث شديد للبيئة، وتوليد كمية كبيرة من النفايات وسوء تداول المواد الخطرة.

لا يجادل هذا المقال في أن نقص الطاقة عائق كبير أمام التنمية الاقتصادية، لكنه يجادل في أن محض توفير الفحم لمحطات الكهرباء والمصانع سيحل مشكلة «ضعف الطاقة الإنتاجية»، ويخرجنا من التخلف، ويحسن مستوى معيشة السكان. لقد كان لدى مصر فائض في إنتاج البترول والغاز حتى عام 2008، ومع ذلك لم تتحقق الطفرة الاقتصادية ولم ننطلق نحو التنمية، ورغم تحقيق ارتفاع في الدخل القومي، لم تتحسن أحوال غالبية الأفراد وارتفعت معدلات الفقر.

وما زالت نفس السياسات التي أوصلتنا لهذه الأوضاع، هي المهيمنة على أوضاع البلد، ولا توجد دلائل تشير إلى أن تغييرا حاسما في التوجهات السياسية والاقتصادية سيطرأ في المستقبل القريب، فالحكومة مثلا، تتجه لتحميل السكان فاتورة الكهرباء، بينما تستمر في دعم الطاقة للمصانع كثيفة الاستهلاك، ويجدر بنا أن نضع هذه العوامل في الاعتبار عند قراءة الموضوع. لن يستفيد من رخص سعر الفحم، سوى حفنة من أصحاب رؤوس الأموال والشركات الكبرى في المجال الصناعي، بتكديس الأرباح الطائلة، بينما يدفع باقي الشعب، والأجيال القادمة، الثمن الحقيقي لهذا الاختيار. وخير مثال هو لوبي مصانع الأسمنت، الذي كان وراء قرار استخدام الفحم، ويبلغ "رأس المال الأجنبي" في هذه الصناعة حوالي 80%، وحصلت على الغاز مدعوما لسنوات طوال، حققت فيها أرباح فائقة، جعلتها الأولى في العالم في الميزة النسبية للصناعة، ورغم ذلك مارست الاحتكار لرفع الأسعار، وبعدما نفذ الغاز، نجحت في استصدار قرارات حكومية لاستيراد الفحم، حتى تستمر في تحقيق أعلى الأرباح.

لا خلاف أيضا على ضرورة تنويع مصادر الطاقة المتاحة في البلد، ولكن الخلاف حول نوعية هذه المصادر. ومبدأ مزيج الطاقة ليس جديدا، وقد كان مزيج الطاقة المستخدم في مصر يتضمن الغاز والبترول والطاقة المتجددة، ولم يكن يتضمن الفحم، لأننا لا نملك الفحم في أراضينا. ومع أزمة الطاقة الحالية، طُرح السؤال حول مزيج الوقود الأنسب لمصر الآن من جديد، وهو سؤال شديد الخطورة، لأنه سيؤثر على المستقبل لعقود طويلة: لماذا نختار الفحم، أكبر ملوث، والذي لا نملكه، ولا نختار التوسع في الطاقة الجديدة أو المتجددة، المتوافرة، ومصر غنية بها؟

الفحم صفقة خاسرة

ما زال الفحم بالفعل ركيزة في إنتاج الكهرباء في العالم، خصوصا الغربي. والسبب ببساطة، هو أن الفحم كان الوقود الأول الذي قامت عليه الصناعة في تلك البلاد، وكان وما زال متوفرا في بلاد كثيرة منها، لم يكن البترول معروفا، كما لم تكن الآثار الضارة للفحم معروفة. ولهذا علينا أن ننظر لنمط استخدام الفحم، وليس فقط لتواجده. وإذا فعلنا، سنجد أن هناك اتجاه مستمر ومتزايد للاستغناء عن الفحم في الغرب، ولاستبداله تدريجيا رغم توفره، وإحلال بدائل الطاقة المتجددة مكانه. وليس صحيحا أن ألمانيا ضمن أكبر دول مستوردة للفحم، أو أنها تستورده أصلا، فألمانيا تمتلك سادس أكبر احتياطي فحم في العالم، ورغم ذلك، ورغم أنه ليس لديها مصدر آخر للوقود الأحفوري، تخطط لخفض استخدام الفحم من 42% عام 2011، إلى 24% عام 2030 ، لتأثيره الضار على الصحة وعلى التغير المناخي، وكذلك انخفض استهلالك الفحم في الولايات المتحدة، الدولة الأولى في احتياطي الفحم، بشكل كبير، ويرجع ذلك جزئيا إلى صدور قوانين حماية الهواء من التلوث، والتي جعلت استخدام الفحم مكلفا، وأيضا توقعات فرض ضريبة عالية على الكربون.

أما من ناحية سعر الفحم، فمن الصحيح أن الفحم رخيص بحساب الوحدات الحرارية، ولكن يجب حساب الكلفة الإضافية لاستخدامه، عند حساب السعر، وهي كلفة إنشاء وتجهيز البنية التحتية، من موانئ وطرق ووسائل نقل، ومخازن قادرة على استقبال آلاف الأطنان من الفحم، وتخصيص آلاف الأمتار من الأراضي، لدفن وكب مخلفات الحرق، إضافة إلي تجهيزات تعديل أو استحداث الآلات وتقنيات تشغيل الفحم. الجزء الأكبر من هذه الأموال الضخمة، سيقتطع من الإنفاق العام للدولة، وقد يؤثر على نصيب التعليم أو الصحة أو الدعم الاجتماعي مثلا، والمشكلة الأسوأ، أنها تورطنا في استخدام الفحم لعقود طويلة، لتعويض هذا الإنفاق، وتستنزف الاستثمارات التي كان من الممكن أن تدعم استخدام بدائل الطاقة الجديدة.

ورغم أن المقال يحتفي بهذا، ويعتبر أن الفحم سيكون دافعا لتدعيم البنية التحتية، وهو مكسب يعود على مجمل الاقتصاد، ففي الحقيقة، لا يوجد حتى ضمان أن هذا سيحدث، أو أن العبء الإضافي لن يلقى على عاتق المرافق المتهالكة القائمة حاليا. ويكفي أن نرى كيف يتم نقل وتخزين الفحم في ميناء الدخيلة بالإسكندرية لتتملكنا الشكوك. لقد تمت الموافقة على استيراد الفحم لصناعة الأسمنت، دون أي بادرة لتدعيم الطرق والمواصلات، ودون انتظار تعديل المعايير البيئية، فماذا نتوقع في ظل ضعف الإدارة وقصور التخطيط ، فضلا عن الأزمة المالية القائمة حاليا؟

فوق ذلك، يؤثر استخدام الفحم على قطاعات اقتصادية أخرى في الدولة، على رأسها السياحة، ولهذا كان السيد وزير السياحة من المعارضين لقرار استخدام الفحم، لتأثيره السلبي على البيئة، وبالتالي على رواج السياحة، وكذلك محافظ البحر الأحمر.

سيدفع هذا القطاع، وبالتالي خزينة الدولة، نصيبا كبيرا من مكاسبه، من جراء استخدام الفحم، وكذلك سيدفع العاملون فيه، ثمن استخدام الفحم من مورد عيشهم، وهو قطاع كثيف العمالة، بعكس صناعة الأسمنت مثلا. هناك أيضا القطاع الصحي، الذي سيدفع تكلفة إضافية، بسبب زيادة نفقات الخدمات الصحية والعلاج، وسيدفع أيضا الأفراد من جيوبهم الخاصة، خصوصا المهمشين الذين لا يتمتعون بأي تأمين صحي.

يعتبر الفحم أعلى مصدر من مصادر الوقود إنتاجا للغازات المسببة للإحتباس الحراري، وكما يذكر المقال، فالدول المتقدمة هي المتسبب الأكبر في هذا الوضع، لكن جميع الدول ستكون مطالبة باتخاذ إجراءات لمواجهة الوضع. فالموضوع خطير ووشيك، ونري ونسمع يوميا أخبار العواصف والفيضانات والجفاف في جميع بلدان العالم، ومصر من ضمن بلاد العالم الأكثر عرضة للتأثر بهذه التغيرات. ومن المرجح قريبًا فرض ضرائب على الكربون، ووضع قيود بيئية على المنتجات، تضع العبء البيئي في الحسبان، وبعض الدول باشرت هذا بالفعل على الواردات التي تدخل أراضيها.

عن البيئة وعن البشر

لا تقتصر قضية البيئة على منع التلوث الضار بالصحة والمسبب للمرض، رغم أهمية ذلك، ولكنها تتسع لتشمل موضوعات مثل الحفاظ على الموارد الطبيعية والاستخدام الأمثل لها، والحد من التغيير المناخي والطاقة المتجددة، وأساليب الاستهلاك وتوليد المخلفات، ولهذا ترتبط بأسلوب النمو الاقتصادي، كما ترتبط بالتوزيع العادل لمخرجات هذا النمو، لأنه بدون مواجهة الفقر، لا يمكن الحفاظ على البيئة، فقضية البيئة وثيقة الصلة بأنماط التنمية، وبالاختيارات السياسية المرتبطة بها.

ولنبدأ بعبء التلوث بالفحم على الصحة، فكما ذكر المقال، الفحم أسوأ أنواع الوقود الأحفوري على الإطلاق في هذا الصدد، وليس دقيقا أن استخدام التقنيات الحديثة يمنع هذا التلوث. فأولا، كمية الانبعاثات التي تتولد عن استخدام الفحم هائلة، والنسبة التي لا تحتجزها الفلاتر، وإن كانت صغيرة، تظل ثقيلة الوطء على البيئة. على سبيل المثال، ينبعث سنويًّا من مصنع لتوليد الكهرباء بقدرة 500 ميجا وات، حوالي 3.7 مليون طُن من ثاني أكسيد الكربون، 100 ألف طن من أكسيد الكبريت، 10 آلاف طن من أكسيد النيتروجين، 500 طن من الجسيمات الدقيقة، إضافة إلى 170 طنًّا من الزئبق و200 طن من الزرنيخ و100 طن من الرصاص. ثانيا، أغلب الأجهزة مصممة لتحتجز الجزيئات الدقيقة والأكاسيد الغازية بالدرجة الأولى، ولكن انبعاثات المعادن مثل (الزئبق والرصاص) تحتاج لتقنيات خاصة، تختلف حسب نوع الفحم، وتمثل تكلفة إضافية، كما أن الهيدروكربونات العطرية والملوثات العضوية الدائمة مثل الدايوكسين والفيوران، وهي مواد مسرطنة، لا تحتجزها الفلاتر العادية. إضافة إلى هذا تنتج كميات هائلة، تقدر بآلاف الأطنان، من المخلفات الصلبة والطينية عند حرق الفحم، وبهذه المخلفات مواد خطرة، مثل الزرنيخ والانتيمون والكروم وغيرها، يضاف إليها رواسب غسيل الفلاتر ومنقيات الهواء، أي أن كثير من الملوثات التي تحتجز عن الانبعاث للهواء، تعود إلينا عن طريق الرواسب. وهذه المخلفات يتم إلقاؤها في مكبات، أو في برك تحتل مساحات واسعة من الأرض، وتظل مصدرا ترشح منه المواد الخطرة، وتصل للمياه الجوفية، أوتكون عرضة لأن تجرفها مياه الأمطار أو الرياح، أو للفيضان واكتساح ما يجاورها.

أما انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، فلا توجد بالفعل أي تقنية قابلة للتطبيق قادرة على السيطرة عليها، وأما الاختراع المسمى "احتجاز الكربون واختزانه"، فهو ما زال تحت التجريب، وعالي الكلفة، لدرجة تجعله غير اقتصادى، كما أن مخاطر استخدامه تبدو عالية.

لقد أثبتت الدراسات المتعددة، التي أجريت في البلاد الغربية، لقياس خطورة استخدام الفحم على الصحة، أن ذلك الخطر قائم، رغم وجود تقنيات مكافحة التلوث الحديثة، ورغم المعايير البيئية الأكثر تشددا، ورغم وجود رقابة بيئية أفضل، بشكل لا يُقارن بالوضع في مصر. على سبيل المثال، أثبتت إحدى هذه الدراسات أن التلوث بالجسيمات الدقيقة، جراء استخدام الفحم في أوروبا، يؤدي إلى وفاة حوالي 24 ألف شخص سنويًّا، وإصابة 19 ألف شخص بالتهاب مزمن في الشعب الهوائية، وحوالي 30 مليون إصابة بالتهاب حاد في الجهاز التنفسي، وخسارة حوالي 4 مليون يوم عمل. وتكلفة هذا العبء المرضي حوالي 15- 42 بليون يورو سنويًّا. وذلك دون حساب تأثير باقي الانبعاثات، أو الرشح من المخلفات الصلبة.

وفي مصر، قدرت دراسة أولية لوزارة البيئة، أن العبء المجتمعي من استخدام الفحم ـ في صناعة الأسمنت فقط - يصل لأكثر من 3.5 مليون دولار سنويا، وإذا وضعنا في الاعتبار الوضع البيئي المتردي، وأيضا تاريخ المصانع السيئ في الالتزام بالمعايير البيئية، يتضح لنا فداحة العبء. على سبيل المثال، أثبتت دراسة أجريت منذ عدة سنوات في حلوان، بمشاركة منظمة الصحة العالمية، أن نسبة الدايوكسين أعلى من المعدل الآمن بحوالي 40 ضعف، وهذا قبل استخدام الفحم في صناعة الأسمنت، أما مصانع الأسمنت نفسها، فقد سُجِلت لها 850 مخالفة بيئية العام الماضي، وهى تستخدم الغاز الطبيعي، مصدر الوقود الأحفوري الأقل تلويثا على الإطلاق.

ومن المقلق للغاية أن يفضل المقال استخدام الفحم في توليد الكهرباء، ويرفضه في صناعة الأسمنت، ورغم أن كلا الخيارين سيء، ولكن كمية الفحم التي ستستخدم في توليد الكهرباء، ستكون هائلة وثقيلة الوطء على البيئة، وحملا ضخما في النقل والتخزين والتجهيز، بما لا يقارن باقتصار استخدامه في الأسمنت، خصوصا أن صناعة الأسمنت تستوعب المخلفات الصلبة والسائلة، في تصنيع الأسمنت ذاته، بينما لا يمكن عمل ذلك في محطات توليد الكهرباء، وستترك لنا الآف الأطنان من المخلفات والرواسب الخطرة وراءها. أما الظن أن محطات الكهرباء الحكومية ستكون أكثر التزاما بمعاير البيئة، فللأسف لا يعدو أن يكون أملا ضائعا، ولدينا أدلة لا تعد ولا تحصى على ذلك، إضافة بالطبع لضعف التشريعات وضعف التنفيذ والمراقبة عموما.

أسعار الطاقة الجديدة والمتجددة

في الواقع، لم يكن العامل الأهم، الذي أحدث نقلة نوعية في الاهتمام بالطاقة الجديدة، هو تغير المناخ، بقدر ما كان ارتفاع أسعار البترول في السبعينات من القرن الماضي، وما اتضح من مخاطر عدم استقرار الأوضاع في مناطق إنتاجه على الدول المستهلكة، وبروز الأهمية القصوى للسيطرة الوطنية على مصادر الطاقة، وهو ما يجب أن نسعى له أيضا. فاختيار مصدر الطاقة، قرار سياسي في المقام الأول، لا يحدده فقط رخص سعر وقود ما في لحظة راهنة.

وحتى بحسابات السعر، ليست كل مصادر الطاقة الجديدة عالية التكلفة في وقتنا الحاضر، فمصادر الطاقة الجديدة والمتجددة متنوعة، تتضمن الشمس والرياح والمياه، والحرارة الجيولوجية، وأيضا المخلفات البلدية والزراعية والكتلة الحيوية. واستخدام المخلفات لتوليد الطاقة، الذي يساهم أيضاً في حل مشكلة تراكم المخلفات، وهو بديل رخيص التكلفة. تقدر بعض المصادر سعر حرق المرفوضات من المخلفات، بحوالي أربعة ونصف دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، دون حساب احتياجات تعديل التكنولوجيا لتلائم استخدام المخلفات، ولكن تعديل التقنية لتلائم الفحم، سيتكلف أموال أيضا. وحاليا تعتبر المخلفات أحد مصادر الوقود الجديدة، التي تحل محل الفحم في صناعة الأسمنت، على سبيل المثال، في بعض الدول الأوروبية. وقد وصلت بعض مصانع الأسمنت في الولايات المتحدة، منذ عام 2007 إلى 80 % نسبة إحلال، في هولندا جاوزت 90% من الوقود، وحتى في مصر تستخدم المخلفات في مصنع "سيمكس"، وتمثل حوالي 25% من الطاقة المستخدمة.

وقد أدي التطور التكنولوجي المستمر، إلى انخفاض أسعار الطاقة المتجددة بشكل مضطرد، ويهمنا على وجه الخصوص، الطاقة الشمسية، التي تنخفض أسعارها بمعدلات سريعة للغاية، والتي تتمتع دول الجنوب بكميات أوفر منها. وهذه السنة بالتحديد، يمكن القول أن أسعار الطاقة الشمسية أصبحت تنافس أسعار البترول والغاز. ورغم أن الطاقة الشمسية تمثل أقل من 0.2 % من سوق الطاقة، لكنها ستكتسح السوق قريبا جدا، وعلينا الاحتفاء والاستعداد لذلك، فمصر أغني دول العالم في الطاقة الشمسية.

أسعار الطاقة ليست ثابتة، والقرارات السياسية والآليات الاقتصادية، لهما دور كبير في التحكم في أسعار الطاقة، وفي توجيه استهلاكها والتأثير على سوقها، ولعل أسعار البترول مثلا واضحا على هذا. فتشديد المعايير البيئية، أو فرض ضريبة عالية على الكربون، يرفعان بالضرورة سعر الفحم، ويؤديان للعزوف عن استخدامه، كذلك قد تدفع الرغبة في تحقيق السيطرة الوطنية على مصادر الطاقة، إلى إجراءات لتشجيع الطاقة المتجددة مثلا، أو إلى زيادة الرسوم على المصادر التقليدية للطاقة، وفي المقابل، قد يؤدي سعى الشركات إلى الربح، إلى محاربة نوع منافس من الاستثمار في الطاقة، الذي يضر بمصالحها، أو قد تؤدي التوجهات العالمية، أو ضغوط المجتمعات، إلى نتائج مغايرة، وهكذا.

عن التبعية والتخلف

يحذرنا المقال من احتكار الشركات الدولية الكبرى، لتقنيات استخدام الطاقة النظيفة، تحديدا في إنتاج الكهرباء، سواء كان الغاز أو الطاقة المتجددة. ويشير إلى أن التنوع في مصادر الطاقة، باستخدام الفحم، يساعدنا في التحرر من هذه السيطرة، وأن التعامل مع الطاقة المتجددة باعتبارها "بديل طاهر، منبته الصلة بالسياق الدولي، وتوازنات القوى وعلاقات الاستغلال والتبعية... وأن الضغط الشديد لاستخدامها قد يدفعنا لكمين استعماري بامتياز".

ولا خلاف على أن وضعنا في النظام الاقتصادي العالمي ضعيف وتابع، كما إنه لا خلاف على ضرورة اعتبار كل موضوع، بوعي وبإدراك للسياق الدولي والمحلي أيضا. ولا أعرف أسباب الظن بأن من ينادون باستخدام الطاقة الجديدة، مجموعة من البسطاء أو الموهومين، كما كنت أتمني بالفعل، أن يكون الضغط في اتجاه الطاقة الجديدة شديد، ولكن نجاح شركات الأسمنت العالمية فى استخدام الفحم، أوضح للأسف أي الضغوط كانت راجحة.

أما عن احتكار الشركات الأجنبية للتكنولوجيا الحديثة، فهذا أمر واقع ومؤسف، لكن لن يفيدنا الامتناع عن التقنيات الحديثة، والاكتفاء بتقنيات أقل تعقيدا، فمثلا، تحتكر شركتين في العالم إنتاج محركات الطائرات، ولن يفيدنا الاكتفاء باستخدام السيارة في السفر مثلا. ولكن هل استخدام الفحم، حتى لو توفر الغاز، كما يدعو الكاتب، والغاز ليس من مصادر الطاقة الجديدة، ولكنه بالقطع أقل أنواع الوقود الأحفوري تلويثا، هو سبيل خروجنا من التبعية والتخلف؟ هل العودة لتشغيل محطات الكهرباء بالفحم سيخرجنا من هذا المأزق، لأن تقنية الفحم أسهل؟ وإذا صح ذلك؟ فهل تعلُّم تقنيات توليد الكهرباء من الفحم، سيعلمنا كيف نصنع آلات الإنتاج بأنفسنا مثلا؟ ولماذا تتحقق هذه النقلة التقنية عند استخدام الفحم، بينما لم تتحقق مع استخدامنا للبترول والغاز، أو لماذا لا تتحقق مع استخدام الطاقة المتجددة، طاقة المستقبل؟

لا أعتقد أن استخدام الفحم يتم بتقنية أبسط، يسهل علينا تعلمها، ولا يوجد سبب يجعلنا أكثر عرضة للاستغلال وللإجحاف، عند استخدام الطاقة المتجددة من الطاقة التقليدية. لقد تم إبرام عدد كبير من عقود التنقيب عن الغاز، بما في ذلك الغاز الصخري، وهو شديد الخطر على النظام البيئي، خلال الأشهر الماضية، ولا نعتقد أن هذه التعاقدات ستكون أفضل من عقود الطاقة المتجددة. وفي الغالب سيبقى إنتاج التقنية التي تستخدم الفحم وغيره، خارج نطاق المعرفة الوطنية، وسيظل تخلفنا التقني عقبة، سواء استخدمنا الفحم أو غيره، ولن يتغير الوضع، إلا بالتحسن في التعليم والبحث العلمي، ونقل المعرفة والتدريب، وايضاً العمل بشروط تعاقدات عادلة تضمن نقل التقنيات، وهي أمور تتطلب إرادة سياسية وحكم رشيد، ولن تتحقق باختيار نوع الوقود الأسوأ.

تتعدد القوى والعلاقات التي تحرك النظام الرأسمالي العالمي، الذي نتأثر به، من موقع الضعيف للأسف، هناك الحكومات والشركات المتعددة الجنسيات، والتي تنافس الدول في سطوتها، هناك فاعلون من مصلحتهم الاستمرار في استخدام الفحم أو البترول، لأنهم يستثمرون فيه أموالاً طائلة، وهناك شركات أخرى وحكومات، تسعى لاستغلال الطاقة المتجددة، والسيطرة على السوق الصاعد والتقنية الخاصة به. ولا يوجد فاعل خير بينهم، ونحن يجب أن نحمى مصالحنا. واتفق بقوة مع ما قاله أكرم إسماعيل، من أن أخطر ما في قضية الطاقة، هو أن الدولة وأجهزتها تعمل بالأساس على ترضية عدة عصابات، لا يعنيها سوى مصالحها الضيقة على حساب ملايين المواطنين، هذه الدولة تحرمنا، كما تحرم نفسها، من أي فرصة للنقاش الجاد حول الراهن والمستقبل، ومن أي إمكانية للإنقاذ.

تم النشر بمدي مصر بتاريخ 7 يونيو 2014