لا تسجنوا الأمل*

10 سبتمبر 2014

يظن المرء إنه بحكم عمله في مجال حقوق الإنسان فهو متعاطف بالفطرة مع المقموعين وسجناء الرأي وضحايا الدولة البوليسية، إلا أن الأمر يختلف تمامًا عندما يتم اعتقال شخص قريب منك، شخص تعرفه وتعرف كيف يقضي يومه في الأحوال العادية، حينها فقط تتحول حياتك إلى جحيم فتتساءل في كل دقيقة كيف يقضي ذلك الشخص القابع في السجون ساعات النهار والليل الطوال؟ ما الذي يُهِّون عليه الحر؟ هل يجد ما يكفي من الأكل؟ هل لديه شهية للأكل؟ كيف ينام؟ هل يعاملونه معاملة إنسانية؟، أسئلة لا تنتهي ولا إجابة لها وإن تمت الإجابة على بعضها تظهر أخرى، لتكشف حقيقة مريرة أن وجود صديق أو قريب خلف القضبان أمر يقلب الحياة رأسًا على عقب.. ببساطة لا تصبح الحياة نفسها.

اعتُقلت صديقتنا العزيزة يارا سلام، مسئولة ملف العدالة الانتقالية بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، وذلك يوم السبت الموافق 12 يونيو 2014 على خلفية مظاهرة منددة بقانون منع التظاهر، ولكننا لسنا هنا بصدد الحديث عن ظروف القبض العشوائي عليها أو عدم وجود أي أدلة ضدها الآن، فهي معتقلة مع 22 شخصًا آخرين بموجب قانون منع التظاهر سيىء السمعة. إلا أننا هنا نود أن نريكم جوانب من حياة يارا سلام قبل عصر ذلك السبت المشؤوم.

يارا ليست فقط محامية ممتازة أو باحثة مجتهدة أو مدافعة عن حقوق الإنسان من الطراز الأول، فالعمل بالنسبة ليارا ليس وسيلة للتكسب إنما هو انحياز واختيار واضح، فبعد دراستها للحقوق بجامعة القاهرة، التحقت يارا بالعمل فى المبادرة المصرية للحقوق الشخصية سنة 2007 كباحثة ببرنامج حرية الدين والمعتقد، وتذكر والدتها الفنانة راوية صادق، كيف أن انحيازات يارا شكّلت اختياراتها بعد الدراسة، وتتذكر أن يارا كانت دائما تقول: "أنا لست محامية بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، أنا مؤمنة بحق الجميع في الدفاع عنهم وفي محاكمة عادلة، إلا أنني حقوقية: أختار مع من أصطف وعمّن أدافع".

بعد أن عادت يارا إلى مصر عام 2011 بعد العمل فترة بجامبيا في اللجنة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب، إنبرت في تطوير برنامج المدافعات عن حقوق الإنسان بمؤسسة نظرة للدراسات النسوية، ولم يكن همّ البرنامج فقط التوثيق أو البحث في الانتهاكات التى تعرضت لها النساء خلال سنين الثورة الصعبة، ولكنها كانت تقدم الدعم الطبي والقانوني والنفسي – هي وفريق العمل - لمن يحتاجه من النساء. تقول ماجدة بطرس، باحثة الدكتوراه بشيكاجو وأحد أقرب أصدقاء يارا: "يارا لم تكن موجودة خلال أشهر الثورة الأولى، ولكنها كانت على اتصال دائم بي وكانت دائما تقول: لن أستطيع أبدًا أن أعرف شعوركم خلال هذه الأيام، لقد خضتم غمار تجربة شديدة الصعوبة"، وتستدرك ماجدة بطرس قائلة: "إلا أنني أرى أن ما مرت به يارا يفوق صعوبة ما مررنا به، لقد كنا في الميادين عندما كان الأمل لا يزال حاضرًا، كنا نغضب ونحزن ولكننا لطالما شعرنا بالنشوة في المسيرات والمليونيات، عندما عادت يارا إلى مصر في النصف الثاني من 2011، كان الأمل قد بدأ في التراجع وحل محله اليأس، وانسحب الكثيرون منا من المشهد، إلا أن يارا أصرت على الاحتفاظ بالتفاؤل، فالبنسبة لها الحياة لا تستحق أن تعاش إلا إذا سعينا للسعادة، ليس لأنفسنا فقط وإنما للآخرين أيضا وخاصة في الأوقات الصعبة".

كثير من النساء المناضلات ممتنات ليارا على دعمها الدائم. وفي هذا الشأن تقول هند نافع، إحدى المقبوض عليهن في أحداث مجلس الوزراء في ديسمبر 2011، على صفحتها على فيسبوك بعد أن علمت بالقبض على يارا: "أول مرة شفت يارا كان في المحكمة بعد القبض عليّ في أحداث مجلس الوزرا، عرفتها من صوتها وهي بتصرخ في وش العساكر اللي كانوا مجرجريني ومصممين إني أطلع 7 أدوار على السلم مش فى الأسانسير وأنا إيدي ورجلي متكسرين عشان اتعرض على النيابة، بعدها خدتني في حضنها حضن طويل كنت محتاجاه وفضلت ماسكة إيدي وواقفة جنبي لحد ما اتعرضت على النيابة واستحمِلِت اللي عملوه عيلتي معاها، وصممت تقف جنبي لآخر لحظة، وبعد ما خرجت حفظت اسمها صم.. دورت على اسمها في كل حتة بس عشان أقولها شكرًا".

لم تترك يارا الظروف الصعبة للعمل بحقوق الإنسان في مصر تنال من روحها ومعنوياتها أو تهمش حياتها الشخصية، تقول أمنية خليل ـ رفيقتها في السكن لمدة عام ـ "طوال مدة سكننا سويا احتفظت يارا بابتسامة لا تفارقها حتى في أحلك الظروف، ولم تكن لتدع العمل يفرقها عن عائلتها وأصدقائها، وبالنسبة ليارا، رمضان والأعياد وأعياد الميلاد هي فرص لا تعوض لترى من تحب، فهي شخص احتفالي ولا شيء يسعدها مثل زيارة الأهل والأصدقاء".

لن تتمكن أبدا من إيقاف أي صديق ليارا عن الكلام عندما تسألهم عنها كصديقة، وسيروون قصصًا عديدة يتداخل فيها العام والخاص، ولكنك ستجد الخط الناظم لهذه القصص دائما أن يارا كانت محل ثقة لكل من حولها.

تتذكر صديقتها نوارة بلال أنه أثناء اشتباكات محمد محمود في نوفمبر 2011، أصيبت نوارة بتشنجات عنيفة من جراء الغاز المسيل للدموع الذي استخدمته قوات الأمن ضد المتظاهرين، تروي نوارة: "لم أفكر سوى في الاتصال بيارا فأنا أعرف أنها هناك في الصفوف الأولى تعمل كممرضة، تحدثت إليها فجاءت على الفور ونقلتني إلى المستشفى وكنت قد أعطيتها هاتفي لترد على أهلي لأني لم أُرِد أن أقلقهم عليّ"، وتضيف: "كنت أستند على يارا وانا أدخل إلى المستشفى بينما تحمل هي بيدها الأخرى تليفوني المحمول وتتحدث إلى والدي بكل هدوء وتطمئنه عليّ، لا أعرف كيف يمكن لشخص أن يكون حنونًا إلى هذه الدرجة وفي الوقت نفسه يحتفظ بجدية ورباطة جأش في المواقف العصيبة".

أما ماسة أمير، صديقة يارا ورفيقتها في العمل سابقًا بنظرة للدراسات النسوية، فتتحدث عن يارا بعامية معبرة، قائلة: "الحب بيخلينا عايزين نفهِّم كل العالم إن حبايبنا اللي في السجون ناس عظيمة وجميلة تستاهل التضامن والمساندة وعشان كده بنكتب عن ملايكة أو أبطال، لكن في الحقيقة مفيش كده، مفيش موقف واحد ممكن أحكيه عن يارا أشرح فيه ليه حبستها كسرتني، لو هافكر في ذكرياتي مع يارا هافتكر حاجات صغيرة مبهجة، هافتكر يارا لما رجعت من أول مرة تغطس فيها وقعدت تكلمني عن أنواع السمك المختلفة اللي شافتها وهي على وشها الضحكة اللي بتاخد كل وشها، هافتكرها أول ما جابت عجلة وكانت مبسوطة إنها شافت هدهد وهي على العجلة وأنا اتريقت عليها لأنها مش عايشة معانا في القاهرة خالص، أوعدك يا يارا إنك أول ما تطلعي هاسيب القاهرة شوية وأروح أتعلم الغطس معاكي زي ما كنتي بتقنعيني".

وكما عبرت ماسة، لم يكن السعي للسعادة بأي حال منفصلا عن نصرة الحق بالنسبة ليارا، وظهر ذلك من خلال اهتمامها بمبادرات صغيرة، مثلا حين كانت تنصح الجميع بقراءة كتاب "ما قيمة الثورة إذا لن نتمكن من الرقص؟".

تعتبر يارا القضاء على العنف الجنسي من أهم معاركها، وهي تتحدث بنفس الحماس عن حق النساء في مدينة آمنة ومضاءة وعن حق الناجيات في إجراءات جبر ضرر تعوضهن عما مررن به، وفي نفس الوقت تقول: "أريد أن أنجب بنتًا ولكني أحارب كي تستطيع ابنتي أن ترتدي ما تريد في شوارع القاهرة دون أن يلومها أحد وتتمكن من السير في الشارع بأمان دون أن يتعرض لها أحد".

لا نطالب بالحرية ليارا لأنها بطلة أو إنسانة خارقة للعادة، بل نطالب بالحرية ليارا لأنها أولًا معتقلة بدون وجه حق، ولأنها ابنة بارة وصديقة وفية وأخت ملهمة ورفيقة عمل استثنائية، هي مصدر تفاؤل وأمل لكل من حولها، فلا تسجنوا الأمل.

تقول راوية صادق، والدتها، "لم نتمكن من رؤية يارا سوى دقائق معدودة خلال الثمانية أيام الماضية، فهم ينقلونها من مكان لمكان ولا يُسمح لنا بالزيارات في أغلب الحالات، خلال رحلتي لرؤيتها في سجن القناطر، رأيت موتيفة الوردة التي تحبها يارا كثيرًا، رأيتها مرسومة على عربات النقل في الطريق، ورأيتها على سور السجن الداخلي، وتذكرت يارا كثيرًا. لم تكلل رحلتي بالنجاح إذ لم يسمح لي برؤيتها، ووقفت في باحة السجن أنظر إلى صفوف الأهالي يقفون في قيظ الصيف حاملين أكياسًا بلاستيكية محمّلة بالطعام لذويهم، بينما يقف عساكر الأمن يذيقونهم ألوانًا من العذاب بين ساعات الانتظار والتفتيش المهين والصراخ في وجوههم، وقفت أنظر إلى كل هذا وإلى موتيفة الوردة وتساءلت: ماذا تفعل الوردة وسط هذا العبث؟".

الحرية ليارا.

الحرية للمعتقلين.

الحرية للجدعان.

* تم نشر هذا المقال بمدي مصر بتاريخ 10 سبتمبر 2014