هوامش على دفتر الحظر

27 أغسطس 2013

هو مشهد الحريق الكبير. 

في 28 يناير 2011 كنا نشاهد النيران تلتهم مبنى الحزب الوطني وننتظر أن يؤذن مؤذن حظر التجول كعلامة انتصارنا. ليلتها مثّل نزول الجيش علامة انكسار دولة حبيب العادلي أمام إرادة من نزلوا الى الشارع ولبثوا نهارا أو أكثر قليلا. في النهار كنا رأينا كل شيء: الموت والحرية ووجه الحقيقة.

الحياة قبل عصر جمعة الغضب غير الحياة بعدها.  كانت جمعة الغضب بمثابة "نداهة الثورة"، طوال عامين ونصف "ندهتنا نداهة" أن ارادة الشارع: ارادة الجماهير الغفيرة التي خرجت حاملة الأرواح على الكفوف في سبيل العيش والحرية والكرامة الانسانية هي ارادتنا، وهي التي  تحدد سير الأحداث.

ارادتنا ضربت بحظر تجول ال18 يوما الأولى للثورة عرض الحائط. كنا نخوض معاركنا ونحمي شوارعنا ونحتفل. نختبر سحرا خفيا أسقط فينا حاجز الخوف كما أسقط الحواجز الطبقية والأوهام المسبقة: فقط كان صدق البشر ونبل الغاية وكفى بالشارع وطن.

في الشارع انتصرنا-أو هُيء لنا. وفي الشارع عادت دمائنا تسيل من جديد.

ندعو ما جرى في ماسبيرو "مذبحة" لأن ما لا يقل عن 25 قتيلا سقطوا في الشارع في ليلة واحدة ضحايا الدهس والرصاص. ننزل للشارع  ونهتف بسقوط حكم العسكر. نضغط فيحدد العسكر موعدا لانتخابات برلمانية.

ننزل للشارع مرة أخرى ضد "وثيقة السلمي" التي وضعت الجيش فوق الدولة. نصمد أمام ما أسميناه "حربا كيماوية" في محمد محمود، ويسقط من صفوفنا أكثر من أربعين قتيلا – ندعوها مذبحة- فنهتف باعدام المشير ثم يخرج علينا ب"خطاب أول" يعلن فيه موعدا لتسليم السلطة "30 يوينو 2012".

نتناقل أخبار أن قيادة الجيش تخشى من اعلان حظر تجول جديد تفشل في تطبيقه وقد يكشف تململا في صفوف الجنود من المواجهات الدائرة في عدة مدن. أسطورة؟ ربما. ولكن المؤكد أن أي قرار باعلان حظر تجول في نوفمبر 2011 كان سيلقى مصير قرار محمد مرسي "وها أنا أفعل" في يناير 2013 باعلان حظر التجول في مدن القناة: مادة للتندر والسخرية.

في محمد محمود رأينا وجه الحقيقة مرة أخرى. ثم تبخر كل شيء وقلنا "معلش..الصندوق بيننا -وبين العسكر-وسننتصر".

كنا على قناعة أن لا شيء سيفرض علينا مرة أخرى بدون شروط عادلة للعبة. نقاتل من أجل فرض شروطنا. ونحتفي بالانتصارات الصغيرة ونوقن أن القادم أفضل.

تقول أروى صالح "فأنت حتما لن تعود أبدا نفس الشخص الذي كنَته قبل أن تبلوك غواية التمرد، وليس فقط لأنه جميل. فلأن التمرد لحظة حرية استثنائية." وأقول: وهو ما سيضاعف مآساتك حين تبقي على العهد متمردا ويدجن الآخرون.

****

الحريق الكبير مرة أخرى.

ولكنه لا يشبه حريق علامة الانتصار على الحزب الوطني القديم في أي شيء. لا أحد يعرف على وجه التحديد من أضرم النيران في جامع رابعة كما لم يعرف أحد من أضرم النيران في مقر الحزب الوطني القديم. لكننا كنا حينها نعرف خطوط المعارك، ونفرق علامات النصر عن علامات الهزيمة.

"مبروك"

قالها لي عامل النظافة وهو يزف لي خبر انه "خلاص فضوا الاعتصام..فاضل بس شوية قليلين.. وهيفرضوا حظر تجول عشان يلموهم".

بينما كانوا "بيلموهم"، كنا نحن نحاول أن نلملم عشرات  الجثث المبعثرة في مسجد الإيمان بعد أن عجزت المشرحة عن استيعاب المزيد من الجثث. كنا نحاول أيضا أن نصل الى رقم دقيق لحصيلة ضحايا فض الاعتصام قبل أن نصدر بيانا اضطررنا فيه أن نستخدم تعبير "مئات الضحايا" لعجزنا عن الحصول على رقم دقيق.

ثم تأتي ساعة حظر التجول فأشعر بروحي تنكسر انكسارا من نوع لم أخبره من قبل. لا ملامح للنصر فيما أرى، ولا شيء سوى الحسرة واحساس غير مسبوق بالعجز، ولا احصاءات دقيقة تجمع صنوف الخسارات.

شارع كان "لنا" صار لقائد الجيش يستدعيه للتفويض فيفوض، يصرفه للمنازل فينصرف.

منذ ذلك اليوم لا أفهم تحديدا من "هم" ومن "نحن" وما هي تحديدا ارادتنا ولماذا يجب علي أن أترك الشارع في الساعة السابعة-أو التاسعة؟

ثم ما الفائدة؟

ما الفائدة أن نحصي ضحايا بعض المذابح ولا نحصي البعض الآخر؟ وما فائدة القصاص من قتلة جيكا والحسيني أبو ضيف بينما لا أحد يريد أن يسمع عن قتلة مينا دانيال وعماد عفت؟ هل سنسمي ما حدث في مجلس الوزراء مذبحة أم أن الذابحين هنا سنغني لهم تسلم الأيادي؟

 ولماذا نحاكم حبيب العادلي اذا كنا لا نحاكم محمد ابراهيم؟

دمعت عيناي فرحا يوم رأيت مبارك ماثلا في القفص. آمنت بما قاله مريد البرغوثي يومها: " كل عرش عربي منذ اليوم قد يصبح قفصاً". اليوم مبارك يخرج من زنزانته بينما نحن سجناء حظر السيسي. و"كل عرش عربي" بكل خير وسنشكره لأننا مدينين له بدعمه لنا في حرب اخترنا أن نخوضها على إرهاب لم نُعرفّه؟

مرة أخرى: لا أعرف من "نحن" ولا ماذا اخترنا.

صارت محاولات تحديد معسكر ال"نحن" مؤلمة. أكاد أخسر صداقات دامت عمرا بسبب ما بعد 30 يوينو وتفويض السيسي.

أسمينا ما تغير في تركيبة محيطنا منذ 25 يناير: الفرز الثوري. لا أذكر أني توقفت عند شخص خسرته أو فترت علاقتي به بين 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013. اليوم لم يعد الأمر فرزا ولا مصارحة مع النفس ولا اعادة ترتيب أوراق، ولا حتى قرارات ثورية. بل صار اجتثاثا يترك في الروح جروحا لا تشفى. قلبي ينخلع خلال مناقشات مع من كانوا كتفا بكتف وأرواحهم على كفوفهم طوال عامين ونصف، قبل أن تصير الثورة حربا على الإرهاب. اليوم تسيطر على حواراتنا معادلة تفرض عليّ تذكر ما أشعله الاخوان في الاتحادية والتعامي عن ما أشعله العسكر في رابعة العدوية.

أبتلع مرارة فوق أخرى، وأقرر أنني لست حمل المزيد من المرارة ولا الخسارات فأتوقف عن النقاش مع من ليس بي طاقة على خسارتهم. أقرر أن أتعامى عن آرائهم المتعامية عن مذابح ضد "الآخرين".

****

"أصل الحظر دا على مزاجنا"

يشرح لي نادل المقهى أسباب العجلة في طردنا من مجلسنا حين ذكّرته أنهم "ماكنوش كده وقت الحظر الأولاني". هو اليوم يقف قلبا وقالبا مع الجيش حتى القضاء على "الارهابين".

"تقصد الاخوان؟" أسأله، فيرد "الارهابييييين".

أتذكر سائق التاكسي الذي كاد أن يجبرني على النزول من سيارته حين لم أوافق على فكرته "لو الجيش مش قادر يقتلهم ننزل احنا نموتهم بايدينا". أتذكر المجند أحمد سبع الليل في فيلم البريء وأتذكر "أعداء الوطن" الذين قتلهم بيديه.

ولا أعرف من ألوم.

الحظر على "مزاجهم" ويبدو أن للمذابح أيضا أمزجة.

****

السادسة ونصف بتوقيت الحظر.

السيارات المسرعة وكلاكساتها تعصف بما تبقى من طاقتي. كل الأبواب موصدة حيث انتقلت للسكن بحثا عن البراح.

السابعة الا ربع بتوقيت الحظر تتحرك مدرعات الجيش لاغلاق الشارع ويدوي من كاسيت آخر سيارة عابرة نشيد المفوضين "تسلم الأيادي". 

ثم نحتفل حين يسمح لنا السيسي بساعتين اضافيتين من حياة كالحياة. ونحتفل أن يوما مر بلا دماء أو حرائق.

ولكن الحياة لا تعود كالحياة.

تتسائل صديقة على صفحتها: "هو بعد كل اللي حصل دا ممكن نكمل حياتنا عادي تاني؟" يؤلمني السؤال ولا أوقن من اجابته.

هنكمّل حياتنا عادي تاني؟  

صار سقف طموحي أن أستعيد ساعات نومي الطبيعية وساعتين اضافيتين من الحياة بدون حظر تجول، وبعض من تركيزي، وأن أضحك من جديد بدون تلك الوخزة التي تلطش روحي.

هنكمّل حياتنا عادي تاني؟

تستعيد أخبار المذابح الواردة من سوريا صدارة نشرات الأخبار، وأقرت مقال حول المذبحة لمحمد أبوالغيط وأتذكر كل المذابح القديمة التي عايشناها وتلك التي تابعناها وكانت بعيدة عنا بعض الشيء.

يمثل أمامي "سيزيف" بعد أن كانت صورته قد توارت عن ذهني طوال عامين ونصف يبدو أننا خلالها كنا في مرحلة دفع الحجر الى أعلى الجبل. اليوم علينا أن نشاهده يتدحرج تحت ناظرينا ويستقر في السفح. ثم "نكمّل حياتنا عادي تاني".