الأزهر وحرية الاعتقاد
«الآن ليس هناك حرية لأحد، في الدين خصوصًا لا يمكن، لن تسمح وزارة الأوقاف لأي إنسان أن يصعد المنبر بدون ترخيص من الوزارة لأننا الوزارة المعنية بهذا الأمر.»
كانت هذه إجابة محمد عبدالرازق، وكيل وزارة الأوقاف السابق لشئون المساجد لسؤال حول السماح للجمعيات الدعوية السلفية بالخطابة وإلقاء الدروس في المساجد. لم تكن إجابة وزير اﻷوقاف صادمة من حيث أنها كلام غريب عن الواقع التشريعي، ﻷنه وفقا لقانون رقم 157 لسنة 1960 فإن وزارة اﻷوقاف «تتولى إدارة المساجد سواء صدر بوقفها إشهاد أو لم يصدر على أن يتم تسليم هذه المساجد خلال مدة أقصاها عشرة سنوات تبدأ من تاريخ العمل بهذا القانون. ويكون للوزارة اﻹشراف على إدارة هذه المساجد إلى أن يتم تسليمها، وتتولى أيضا اﻹشراف على إدارة الزوايا التي يصدر بتجديدها قرار من وزير اﻷوقاف وتوجيه القائمين عليها لتؤدي رسالتها الدينية على الوجه الصحيح.»
يمكن اعتبار تلك الإجابة هي نهج الدولة من خلال مرجعية مؤسسة اﻷزهر الدينية في التعامل مع الحريات الدينية في مصر على إطلاقها سواء كان المقصود بالحرية الدينية ممارسة النشاط الدعوي في المساجد أو التعبير عن آراء دينية متباينة من داخل المساحة السنية والتي لا يرضى عنها اﻷزهر بصفته وفق نص المادة السابعة من الدستور المصري «المرجع اﻷساسي في العلوم الدينية والشئون اﻹسلامية»، أو كان المقصود حرية الممارسة أو الاعتقاد عبر مذاهب أخرى داخل اﻹسلام كالمذهب الشيعي -سنتعرض لاحقا لكيف ينظر إليها اﻷزهر- أو حتى أديان مختلفة كالبهائية وكيف استند القضاء لرأي الأزهر فيما يتعلق بهذه المذاهب والعقائد لتقييد حريات أتباعهم الدينية.
«مش ممكن يكون الفكر ده اللي تم تقديسه، أنا مش بقول الدين أنا بقول الفكر ده، اللي تم تقديسه، نصوص وأفكار تم تقديسها على مئات السنين، وأصبح الخروج عليها صعب قوي» هكذا علق عبد الفتاح السيسي في احتفال المولد النبوي عام 2015 على قضية تجديد الخطاب الديني والتي أكد فيها أنه تحدث عنها أكثر من مرة، وأضاف خلال تلك اﻻحتفالية «احنا محتاجين ثورة دينية»، وقال موجها حديثه للحضور «الكلام ده أنا بقوله في اﻷزهر هنا أمام رجال وعلماء الدين والله ﻷحاجيكم يوم القيامة أمام الله سبحانه وتعالى.» ثم توجه بالحديث إلى أحمد الطيب، شيخ اﻷزهر «فضيلة اﻹمام أنتم مسئولون أمام الله.» تعكس الكلمات السابقة رؤية الدولة، ممثلة في رئيسها، لقضية حرية التعبير في المجال الديني، حيث يجب أن يكون هناك علماء وجهات مختصة هي من تتولى تلك القضية.
ولعل أبرز قضية تعكس السابق ذكره، قضية برنامج «مع إسلام» للباحث إسلام البحيري والذي أثار حفيظة علماء اﻷزهر لتناوله بعض مكونات التراث اﻹسلامي بالنقد وعلى أثر ذلك هاجمه قيادات الأزهر حتى تقدمت مؤسسة اﻷزهر في إبريل 2015 بمذكرة لهيئة اﻻستثمار مطالبا بوقف البرنامج. واعترضت تلك المذكرة التي أعدها مجمع البحوث اﻹسلامية على ما ادعاه البحيري بأن الدين ليس علما، وما قاله بأن نصوص الشرع يفهمها جميع الناس، كما يخاطب بها جميع الناس، وأن كل شخص من حقه أن يفهم الدين وفقا لفطرته ومزاجه الإنسانى وهواه، مؤكدا أنه صرح بذلك فى أكثر من حلقة. واعتبرت المذكرة تلك التصريحات دعوى للخروج من عباءة الدين، لأنه بموجبها سيفهم كل شخص النص بطريقته دون استناد إلى قواعد أو ضوابط. وأكدت المذكرة أنه لا يوجد دين ليس له قيود ولا قانون ليس فيه قيود، حتى يطالب البحيري بفك القيود عن الدين الإسلامي. انتهت قضية البحيري بوقف عرض البرنامج ثم سجنه لاحقا بصدور حكم في ديسمبر 2015 بحبسه لمدة عام مع الشغل والنفاذ بتهمة إزدراء الدين اﻹسلامي.
وفي ذات المعنى عن احتكار المؤسسة الدينية لحرية التعبير والنظر في الدين أكد مختار جمعة، وزير اﻷوقاف وعضو مجمع البحوث اﻹسلامية في كتاب «نحو تجديد الخطاب الديني» والذي طبع عام 2015 أن تجديد الخطاب الديني ينبغي «ألا يترك نهبا لغير المؤهلين ولغير المتخصصين أو المتطاولين الذين يريدون هدم الثوابت تحت دعوى التجديد». يتحجج جمعة في كتابه بدقة وخطورة المرحلة الحالية وصعوبة التحديات الداخلية والخارجية، واستطرد جمعة “المتخصص المؤهل إذا أخطأ فله أجر، وإن اجتهد فأصاب فله أجران، اﻷول لاجتهاده واﻵخر لإصابته، أما من تجرأ على الفتوى بغير علم، فإن أصاب فعليه وزر، وإن أخطأ فعليه وزران، اﻷول لاقتحامه ما ليس له بأهل، واﻵخر لما يترتب على خطئه من آثار كان المجتمع والدين معا في غنى عنها في ظل أوقات تحتاج إلى من يبني لا من يهدم.»
الجدير بالذكر أن رأي جمعة –عالم الدين- يتماشى تماما مع ما عبر عنه قانون 13 لسنة 2012 والذي عدل بعض أحكام قانون 103 لسنة 1961 الخاص بتنظيم اﻷزهر، حيث ذهب في الفقرة الثانية من المادة 2 إلى أنه «(الأزهر) المرجع النهائي في كل ما يتعلق بشئون اﻹسلام وعلومه وتراثه واجتهاداته الفقهية والفكرية الحديثة.» وهو ما يؤكد اتفاق الأزهر والدولة على مبدأ عدم توفير الحرية في مناقشة الأراء الدينية، ولا سيما الفتوى.
وليس هناك مفاجأة في ألا تكون رؤية قيادات المؤسسة الدينية لمذهب آخر من داخل اﻹسلام وهو المذهب الشيعي بعيدة عن موقفها من تعدد الآراء داخل المذهب السني. مبدئيا، يمنع على اتباع المذهب الشيعي ممارسة شعائره الدينية أو التعبير عنها فقبل أيام من ذكرى عاشوراء في نوفمبر 2013 أعلنت وزارة اﻷوقاف أنها «ترفض ممارسة أي شعيرة تنتمى إلى المذهب الشيعي في أي مسجد» وطالبت الداخلية بمواجهة ذلك، وهو ما يتناقض مع المادة 64 من الدستور المصري، والتي لم تقيد حرية اﻻعتقاد أو إقامة الشعائر الدينية ﻷتباع الديانات السماوية بأي قيد. كما نشرت المؤسسات الدينية الرسمية كتابات احتوت على خطابا للكراهية والتمييز ضد الشيعة منها على سبيل المثال كتاب «الشيعة قادمون» لمؤلفه سعيد اسماعيل والذي نشرته مؤسسة أخبار اليوم بتقديم من أحمد الطيب، شيخ اﻷزهر، والذي أدان مرات عديدة تعبير الشيعة المصريين لمعتقداتهم الدينية معتبرا ذلك «تبشير شيعي في معاقل أهل السنة» وفق تصريحه لجريدة «صوت اﻷزهر» في مايو 2015. وفي الوقت ذاته في نفس الشهر في برنامجه الرمضاني، تناول الطيب عدة أمور خلافية منها رأي الشيعة في الصحابة ووصفهم بـ المتطاولون على الصحابة والمغامرون بإيمانهم. هذا بالإضافة إلى شهادات أخرى عديدة عن سياسة الدولة الدينية تجاه الشيعة، نشرت في تقرير للمبادرة المصرية للحقوق الشخصية بعنوان «التنوع الممنوع في دين الدولة: الحرية الدينية للمصريين الشيعة نموذجًا.»
هذا اﻻحتكار الحصري لممارسة اﻹسلام والتعبير عن اﻷفكار لم يتوقف عند الشيعة وإنما تعدت تلك السيادة الدينية لأتباع الديانات اﻷخرى والتي لا تصنف من ضمن «اﻷديان السماوية» وفق تعبير الدستور المصري، ما يجعلها أقل حصانة من الأمثلة السابقة، والتي لم تحميها حصانتها الدستورية من الأساسس. على سبيل المثال ووفق تقرير «هويات ممنوعة» الصادر عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية عام 2007، تتعامل الدولة المصرية مع «البهائيين» ب «سياسة اﻹلغاء» وفق القانون رقم 263 لسنة 1960 والذي أصدره الرئيس الراحل جمال عبدالناصر. وبموجب ذلك القانون تم حل المحافل والجمعيات البهائية ومصادرة ممتلكاتها. وفي خطاب بتاريخ 3 مايو 2006 أرسله سيد طنطاوي شيخ اﻷزهر إلى المستشار محمود أبو الليل وزير العدل، بناء على سؤال اﻷخير حول «مدى شرعية البهائية ومدى صلتها باﻷديان التي شرعها الله سبحانه وتعالى» على حد تعبير الرسالة، قال طنطاوي «أن الذي اجتمع عليه رأي فقهاء اﻷمة أن البهائية ليست من اﻷديان السماوية.» واستطردت رسالة اﻷزهر لوزارة العدل عن ممارسة البهائيين لشعائرهم الدينية من خلال إقامة المحافل على قرار المحكمة الدستورية العليا بجلستها الصادرة بجلسة أول مارس 1975 «أنه وإن كانت حرية اﻻعتقاد الديني مطلقة، إلا أن ممارسة الشعائر الدينية مقيدة بوجوب اتفاقها مع النظام العام….. وقد حظر الدستور إنشاء هذه الجمعيات متى كان نشاطها معاديا لنظام المجتمع، ونظام المجتمع هو النظام العام.»
مما سبق يتأكد أن الدور الهوياتي سواء لمؤسسة اﻷزهر أو وزارة اﻷوقاف بصفتها القانونية المتمثلة في إدارة النشاط الديني ليس قيدا على ممارسة الإسلام بتنوعاته المختلفة فقط، ولكن على الجميع. وذلك وفق الدور الدستوري والقانوني للأزهركمسئول عن إدارة مسألة حرية الدين والاعتقاد في مصر. وإنه في حالة توافر إرادة سياسية حقيقية لتحقق مبدأ حرية الاعتقاد، فلابد من إلغاء هذا الدور واﻻتجاه نحو وجهة ديمقراطية منحازة للمساواة في الحقوق والحريات لا يوجد فيها دور هوياتي لهيئة دينية مركزية.
تم نشر هذا المقالبموقع التحرير بتاريخ 27 سبتمبر 2018