كهنوت المال: "علماء" الاقتصاد كجامعين لأسوأ ما في الدين والفيزياء

3 أبريل 2016

كان آدم سميث، مؤسس علم الاقتصاد الحديث، جزءا من حركة التنوير وهي حركة تاريخية أهم سماتها الإعلاء من قيمة العلم والتفكير العقلاني، ومحاولة علمنة مجالات الحياة المختلفة بما فيها ما يعرف اليوم بـ"العلوم الإنسانية"، وإضفاء صفة العلم على الاجتهادات الخاصة بتفسير النفس البشرية (علم النفس)، وتفسير السلوكيات المجتمعية (علم الاجتماع)، وطبعا تفسير حركة الأموال وأنماط الإنتاج والاستهلاك فيما عرف بعلم الاقتصاد.

تأتي قوة العلم من قدرته على التنبؤ الدقيق، وخضوع نظرياته إلى التجربة العملية. وبالرغم من كل ذلك، تثبت الكثير من النظريات العلمية فشلها مع الوقت، أو على الأقل عدم قابليتها للتعميم المطلق، مثل نظريات نيوتن التي كانت هي الحق المطلق لمدة تزيد عن قرنين، حتى جاء أينشتين في بداية القرن العشرين بنظرياته عن النسبية لتثبت أن نظريات نيوتن غير مؤهلة لتفسير حركة المجرات والكواكب في الكون الواسع، وإنه حتى الزمن الذي يعتبر من أكثر المفاهيم الإنسانية رسوخا وثباتا، نسبي ويختلف من مكان إلى آخر. لكن بالنظر إلى تاريخ الفيزياء ونظرياتها، نجد أنها في أغلبها كانت قادرة على التنبؤ الدقيق، والصمود أمام التجربة العملية والعلمية، لدرجة أن نظريات أينشتين التي مر عليها قرابة قرن من الزمان ما زالت تثبت صحتها حتى يومنا هذا مثلما حدث مؤخرا عند الكشف عن موجات الجاذبية.

كان آدم سميث هو رائد المهمة التنويرية المرتبطة بتحويل التجارة والمال إلى مجال يقترب في عقلانيته من العلوم الطبيعية كالفيزياء. توجد في كتب آدم سميث الإرهاصات الأولى لإيمان بعض الفلاسفة بالعقلانية الاقتصادية لبني البشر، وبالتالي إمكانية التنبؤ بالفعل الاقتصادي على مستوياته الكلية استنادا إلى سلوكيات الأفراد (أو تلك الكائنات الاقتصادية) التي يمكن التنبؤ بها مثلها مثل سلوكيات مكونات الذرة، وهو ما تجلى في تطويرهم لفكرة "الإنسان الاقتصادي". والإنسان الاقتصادي homo economicus هو إنسان عقلاني تحركه مصلحته الشخصية يحاول أن يعظم من منفعته كمستهلك بشكل مدروس ودقيق. ثم جاء اقتصادي القرن الثامن عشر العقلاني جون ستيوارت ميل، ليطور مفهوما أكثر تكاملا عن الإنسان الاقتصادي، ويقول ميل إن الاقتصاد السياسي لا يتعامل مع الطبيعة البشرية كشيء يغيره الوضع المجتمعي أو سلوك الإنسان في المجتمع، بل يتعامل مع الإنسان بوصفه فقط كائنا يرغب في تملك الثروة، وقادرا على الحكم على فعالية المسارات المختلفة لتحقيق هذا الهدف الحاكم للسلوك البشري.

جاءت هذه النظرة اليقينية كجزء من حركة التنوير التي سيطرت عليها تصورات عن قدرة البشر على خضوع أي شئ (حتى البشر نفسهم) للتجربة العملية والقياس والتنبؤ. فالبشر مثل المواد الكيميائية يمكن بدقة التنبؤ بردة أفعالهم عند خضوعهم لمؤثرات معينة، وبالتالي من الممكن تطوير رؤى اجتماعية واقتصادية تحظى بمكانة العلم الطبيعي.

تم تطوير العديد من النظريات الاقتصادية في السياسة المالية والنقدية على مدار القرنين التاسع عشر والعشرين، في ظل محاولة إضفاء صفة العلم على هذه النظريات عن طريق استخدام الكثير من المعادلات الرياضية والخطاب اليقيني والاستعلائي، حتى أصبح التعامل مع حركة الأموال كحركة الكواكب والنجوم والمجرات، من حيث إنها مجال معقد لا يفقهه إلا المتخصصون، ومن حيث عدم قدرتنا كبشر على التأثير فيه.

وتم انتقاد النظرية العقلانية في الاقتصاد على عدة أسس، أهمها أنها تتعامل مع النفس البشرية المعقدة بشكل أحادي البعد، ولا تتعامل بشكل جدي مع الصراعات الداخلية التي يصعب معها تحديد بشكل دقيق ما يريده الإنسان، فالإنسان الذي يتبع حمية غذائية بهدف التخلص من الوزن الزائد عادة ما تكون أفعاله، وبالتالي أنماطه الاستهلاكية، غير متوقعة وغير ثابتة، فكلنا نعرف هذا الشخص الذي حين يلتف جميع أصدقائه حول مائدة طعام من أجل تناول وجبة الإفطار في رمضان يمتنع عن الأكل، وفي لحظة أخرى في الساعات المتأخرة من الليل قد يفقد السيطرة على نفسه ويقوم بطلب كميات كبيرة من الأكل غير الصحي، وهو قرار بلا شك منتزع عنه صفة "العقلانية". ويوجد أيضا الصراع بين الدوافع الشخصية والعادات المجتمعية، والتي كثيرا ما تنتصر فيها العادات المجتمعية. وماذا عن أنماط استهلاك الأطفال، فهل تتسم بالعقلانية؟ هل يمكن تفسير رغبة طفل صغير في شراء لعبة يوجد لديه شبيهتها بالمنزل على إنه تصرف عقلاني؟

ومن المهم هنا الإشارة لمجال جديد نسبيا وهو علم الاقتصاد العصبي، الذي يدرس تأثير عمليات المخ على القرارات الاقتصادية، ووجدت أغلب الأبحاث أن العاطفة، وليس "العقل"، تلعب دور البطل في عملية اتخاذ القرار الاقتصادي. ففي دراسة صادرة عام 2004، تتحدى مفهوم أن القرار الاقتصادي هو قرار عقلاني قائم على تعظيم المنفعة بقدر المستطاع، لافتراض هذا المفهوم بقدرة غير موجودة للبشر، ومقصورة فقط على الآلهة، على المعرفة المطلقة وقدرة لا نهائية على تحليل تلك المعرفة للوصول للقرار الأمثل. وتنتقد الدراسة أن تأثير العاطفة على القرار الاقتصادي تم إهماله بشكل كبير.

القدرة على عدم التنبؤ الاقتصادي كانت هي العلامة المميزة للعالم في العقدين الأخيرين. فها هي المنطقة العربية تشتعل بالثورات التي لم يستطع أحد التنبؤ بها بسبب كل ما جاءت به تلك الثورات من خراب ودمار لم ينتج عنه أي نوع من أنواع تعاظم المنفعة التي تحكم بالضرورة أفعال الإنسان الاقتصادي، وتم التضحية والمخاطرة من قبل جمهور الثورات الواسع بمكاسب المدى القصير والمتوسط في مقابل ما لا يزيد عن كونه أملا في وضع أفضل على المدى الطويل بل وربما نتيجة إيجابية لن يحصد ثمارها غير الأجيال القادمة، وها هي الأزمة المالية العالمية تؤدي لسنوات كساد في الكثير من دول العالم، ولم يتمكن أحد من التنبؤ بحدوثها على هذا النطاق الواسع، والذي تسبب فيه العديد من القرارات الفردية أبعد ما تكون عن العقلانية سواء بالاقتراض أو بالتسليف.

ومع كل كارثة اقتصادية تتوقع أن يتحلى بعض "العقلانيين" بالتواضع، والاعتذار عن أو حتى الاعتراف بالخطأ، لكن ما يحدث هو العكس، فكلما زادت الكوارث الاقتصادية كلما زاد العقلانيون واليقينيون في ممارستهم للسلطوية المعرفية. أزمة هذه اليقينية ومساواة الاقتصاد بالعلوم الطبيعية، ومساواة دارس الاقتصاد بعالم الفيزياء مثلا، أنها تمثل حائط صد كبيرا ضد أي محاولة للإصلاح أو التغيير أو خلق مجتمع أكثر عدالة بحجج من قبيل "أن هذا كلام غير علمي"، أو دحض المسألة برمتها على أساس أن الأسواق "لا تعمل بهذا الشكل"، أو مقولات يقينية مثل أن "النزعة الفردية هي الدافع للإنتاج وخلق الثروة"، أو أن تحقيق النمو يأتي كأولوية على توزيع الثروة، لأن "قوانين" حركة المال تحتم على ثمار النمو أن تتساقط إلى الطبقات الأفقر فلذلك يجب أن تكون الأولوية دائما لتحقيق معدلات نمو عالية، وعدم ضرورة مناقشة توزيعها لأن هذا بالقطع سيحدث بشكل تلقائي.

الكهنوت الاقتصادي، مثل الكهنوت الديني، أو مجتمعات العلماء، يمثل ناديا حصريا ومغلقا لعدد قليل من البشر يفترضون في أنفسهم الحيادية، ومعرفة ببواطن الأمور وقدرة على التنبؤ والقياس يستعصى فهمها على البشر العاديين. لكن بعكس مجتمعات العلماء، فإن دخول العاطفة وتعقيدات النفس البشرية والمصالح والانحيازات على خط المسائل الاقتصادية تجعل من القدرة على التنبؤ مستحيلة، فتصبح مهمتهم أقل جدوى، بل وأكثر تدميرا في بعض الحالات، بكثير من مهمة المتخصص في العلوم الطبيعية. وأما الكهنوت الديني، فتم تصنيفه في مرحلة ما بعد التنوير والاتجاه لفصل الشئون الدينية عن الشئون السياسية، على أنه مسألة روحية خالصة وغير ملزمة فيما يتعلق بمناحي الحياة الدنيوية، وغالبا لا تخرج حدود سلطته وسيطرته إلا على أتباع الديانة، ويسهل التحرر من قيوده حتى ولو سرا إذا أراد أتباعه. أما الكهنوت الاقتصادي، فهو حاليا يمارس سلطة معرفية مطلقة على الجميع لكن بدون "أمارة" المجتمع العلمي المتمثلة في قدرتهم العالية على القياس والتنبؤ، وفي نفس الوقت يتمتع بوضع الكهنوت الديني من احتكار لوضع معرفي معين يخدم في الكثير من الأحيان ويشرعن لسلطة سياسية تنتهج من الظلم الاقتصادي باسم العلم منهجا لا يقبل التشكيك.

ونعاني في مصر حاليا من أشكال عديدة لسطوة تلك النخب الاقتصادية، التي لا ترى جدوى من مناقشة الأمور الاقتصادية على نطاق مجتمعي واسع قبل إقرارها، مثلما لا ترى الفيزيائية—وهي محقة في ذلك—حاجة من عرض نظريتها على الرأي العام وفتح حوار مجتمعي بشأنها، فيكفيها في هذه الحالة عرضها فقط على المجتمع العلمي. أما ما لا يصح فهو التعامل مع قوانين الاستثمار مثلا كنظريات علمية، وبالتالي كأمر يخص فقط "علماء الاستثمار" حيث يتم مناقشتها في غرف مغلقة، ثم يتم فقط إعلام العامة بها بعد إقرارها، أو قانون الخدمة المدنية الذي يمس نحو 30 مليون شخص بشكل كبير ومباشر، ويمس مجمل المواطنين بشكل مباشر وغير مباشر لكن بالرغم من ذلك يقتصر إعداده ومناقشته وإقراره على قلة من المتخصصين والتكنوقراط. هل يجدر بنا حقا أن "نسمع كلامهم هم بس" كما يحاولون أن يقنعونا؟

تم نشر هذا المقال عبر موقع أصوات مصرية بتاريخ 31 مارس 2016