ألفريدو سعد فيليو: المساحة فارغة لليمين المتطرّف… وللبدائل أيضاً

1 أغسطس 2023

حوار: وائل جمال- عمر سعيد

يعتبر ألفريدو سعد فيليو أن غياب الديمقراطية الاجتماعية وغياب الجدل بين اليسار واليمين يترك مساحة فارغة يمكن لليمين المتطرّف أن يشغلها. وهذا خطير جدّاً ومدمّر جدّاً. ولكنّها مساحة مُتاحة أمام البدائل أيضاً. أمّا كيف تظهر هذه البدائل وتحقّق انتصارات سياسية؟ فهذا غير واضح.

ويرى في حديثه مع موقع «صفر» أن هذه اللحظة السياسية الخطيرة يتشاركها كلّ من الدول المتقدّمة والدول النامية. مع الأخذ في الاعتبار طبعاً المعاناة الإضافية التي تلحق بالدول النامية مع احتياجها الشديد للنمو الاقتصادي وتوليد الدخول وسدّ احتياجات الناس، غير أن دعاوى «التضخّم» و«الاستقرار المالي» و«القيود المالية» تعرقل ذلك. يحدث هذا في الوقت نفسه الذي تغيب فيه مساءلة سياسات إجماع واشنطن بشكل واقعي، وينزلق النقاش عن تحديد المسؤول عن الإخفاق، فتكون الإجابة هي: الفساد. الفساد مسؤول عن الأزمة. لا بدّ أن هناك من يسرق الأموال، من هو؟ 

كما يقول ألفريدو سعد فيليو، إنها المرّة الأولى في تاريخ رأس المال، أي منذ 400 سنة، يأتي جيل يعرف أنه لن يحقّق ما حقّقه آباؤه، وهذا حدث ضخم وثوري. كان يمكن في السابق القول «حسناً، سأفعل هذا، وأضحّي بعيش حياة صعبة من أجل أطفالي»، أمّا اليوم فأنت تعلم أنك تضحّي وتعمل وأن أطفالك سينالوا حياة أصعب ممّا عشت… هذه لحظة فقدان شرعية النظم السياسية والاقتصادية القائمة، وستكون هذه مشكلة حقيقية في كلّ أنحاء العالم.

هذا ما يقلقني، ويجب أن يقلق الجميع

لقد كتبت لسنوات عن التحوّل من اقتصادات دول الرفاه إلى نموذج مشروع «إجماع واشنطن»، كتحوّل في الاقتصادات النيوليبرالية. كنّا قد اعتدنا على ثالوث البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظّمة التجارة العالمية، لكنّنا تحوّلنا إلى نمط تختفي فيه منظّمة التجارة العالمية، أو يتراجع دورها بدرجة كبيرة لصالح البنوك المركزية كلاعب جديد يؤثّر على الاقتصاد المحلّي والدولي. يوجد الآن ثالوث جديد مع البنك وصندوق النقد الدوليين، في ما بات يعرف بـ «إجماع واشنطن». كيف ترى تأثير هذا الانتقال على هيكل الاقتصاد الدولي؟ هل يعكس نموّاً في أهمّية القطاع المالي؟ ما هو شكل الرأسمالية التي نعيش معها الآن؟ وهل هي مختلفة عن الرأسمالية التي طَرحت مشروع «إجماع واشنطن»1 ؟

أعتقد أن العالم شهد تصاعداً متزايداً للأموَلة في السنوات الأربعين أو الخمسين الأخيرة. ونعني بالأموَلة زيادة قوّة المؤسّسات المالية وأسواق المال وتأثيرها في قرارات الاستثمار، وضمان سيطرتها على مصادر رأس المال في الاقتصاد، وكذلك على تخصيص الموارد، ما يمكّنها من خلق مركزية في نظام مالي مدوّل، يخضع لسيطرة كلّ من المؤسّسات العامة الأميركية والمؤسّسات الخاصّة التي تتّخذ من الولايات المتّحدة مقرّاً لها، وقد استطاع هذا الترتيب التأثير في صنع القرارات داخل بلدان العالم بشكل فردي. 

لكن كما أشرت فإن وظائف النيوليبرالية تشهد تغيّراً. لا تزال إعادة التمويل الدولية تتأثّر بشدّة بتدفّقات العولمة وعولمة التجارة وتكامل الإنتاج عبر البلاد، وقد عانت في هذا الصدد من انتكاسات كبيرة، خصوصاً مع إدراك الولايات المتّحدة أنه ليس في قدرتها السيطرة على كلّ تلك العمليات بالطريقة التي تجعلها تعمل في صالحها، وهذا هو السبب الأساسي وراء انخفاض تأثير منظّمة التجارة العالمية والشلل الافتراضي لقدرتها. 

إذن، تمّت إعادة صياغة عملية تكامل الإنتاج بأشكال مختلفة، حتى أن البعض يتكهّن بأننا بصدد مرحلة ممتدّة من إزالة العولمة، ولكن هذا سيكون محدوداً لأن الشركات الكبرى والمهمّة رسمت عمليات الإنتاج بطريقة يصعب السير عكسها، بعكس استثناءات محدودة في مجالات الأمن القومي والدفاع تركّز عليها كثيراً إدارة جو بايدن في سياساتها الاقتصادية.

مع ذلك، يبقى تنظيم النشاط الاقتصادي داخل البلدان موجَّهاً بحسب المبادئ النيوليبرالية مع احتلال البنوك المركزية لموقع مركزي فيها. تؤدّي البنوك دور المؤسّسات ذات الأهمّية المركزية في عمل الأموَلة والنيوليبرالية الأكثر عمومية، باعتبارها التكوين الحالي للرأسمالية العالمية. تضمن البنوك المركزية الاستقرار المالي وتدفّق الموارد وسيولة الأوراق.

إدراك الولايات المتّحدة أنه ليس في قدرتها السيطرة على كلّ تلك العمليات بالطريقة التي تجعلها تعمل في صالحها، وهذا هو السبب الأساسي وراء انخفاض تأثير منظّمة التجارة العالمية والشلل الافتراضي لقدرتها
باتت البنوك المركزية المستقلّة شائعة الانتشار منذ نهاية الثمانينيات، منطلقة من نيوزيلندا مع شيوع هدف خفض التضخّم عالمياً. والمثير للاهتمام أن الخطاب المروِّج للبنوك المركزية المستقلّة يدور حول استقرار الاقتصاد الجزئي وانخفاض معدّل التضخّم. عندما يغيب الاستقرار المالي، تؤدّي البنوك المركزية دورها، وتنفق كل الأموال اللازمة لعودة الاستقرار في مؤسّساتها… وفي الواقع هذا تعبير عن هيمنة مجموعة معيّنة من المؤسّسات على السياسة الاقتصادية بالشكل الذي يمكّنها من تطويع السياسة العامة تحت دعوى «هذا الأفضل لكم»، وبالتالي فإن «الأفضل للمؤسّسات المالية هو الأفضل للمجتمع كلّه».

في الحقيقة، ومنذ العام 2008، فقَدَ هذا النوع من النظم شرعيّته، وبات واضحاً أن هذا النظام ليس مُصمّماً من أجل تحقيق النمو الاقتصادي المنتظر، بل لتحقيق مصلحة المؤسّسات المالية ودعم الأموَلة. نحن نعيش في وقت تشهد فيه الليبرالية سيولة سياسية وأيدلوجية؛ عانت من الأزمة الاقتصادية في 2008، وعانت من انهيارات عدّة يشهدها العالم جراء انتشار جائحة كوفيد-19، وشهدت حتى الآن موجتي تقشّف مالي عنيف من أجل دفع تكلفة الاستقرار المالي ومن ثمّ استقرار اقتصاد بعد الجائحة. وفي النهاية، كلّ هذا لا يعمل، الدخول لا ترتفع، والاقتصاد العالمي دخل في حالة ركود لا أمل للفكاك منها في المدى المنظور.

الآن تحاول الولايات المتّحدة البحث عن مخارج اقتصادية واضحة، ويقدّم بايدن منفذاً جيّداً عبر تنفيذ سياسات نظرية النقود الحديثة2 ، لكن هذا يبقى احتمالاً ممكناً في الولايات المتّحدة، وإنّما صعب التحقّق على مستوى أوسع. في النهاية سياسات نظرية النقود الحديثة مُمكنة التطبيق في دول تصدر عملة عالمية، وليس في دول تصدر عملات تابعة. كيف يمكن حلّ ذلك؟ هذه واحدة فقط من المعضلات التي نواجهها.

ما أراه جديراً بالتأمّل هو ليس حدوث هذه الأزمات الاقتصادية وحسب، وإنّما تلاقيها مع أزمات أخرى. نحن أمام أزمات سياسية في البلدان الديمقراطية، نواجه أزمة الوباء وهي أزمة صحّية، وأزمة حوكمة في الوقت نفسه، ناهيك عن الأزمة البيئية الساكنة في خلفية الأزمات الباقية ولكن يبقى أثرها مهولاً. إذن، كيف سنواجه كلّ تلك الأزمات والإشكاليات؟ لا يوجد إجابة، وهذا ما يقلقني، ويجب أن يقلق الجميع.

كيف يمكننا حلّ هذه المعضلة؟

بالحديث عن الأزمة، لدينا سؤال يطرح بأشكال مختلفة منذ الأزمة الاقتصادية في 2007- 2008، وعاد بالطبع إلى الأذهان عقب انتشار وباء كوفيد-19، هل تشكّل الأزمة فرصة ما لخلق اقتصادات بديلة من وجهة نظر دول العالم الثالث والدول النامية؟

كما اعتقد، بات واضحاً أن النموذج الليبرالي الحالي المرتبط بتوافق واشنطن لا يعمل. هناك دائماً وعد ما بأنه سيعمل إذا طبّقنا بعض الإصلاحات الإضافية؛ جولة إضافية من التعديلات، جولة إضافية من شدّ الحزام، وفي النهاية لا شيء يتغيّر. دولة تلو الأخرى، ترى فشلاً في تحقيق النمو الاقتصادي، وفشلاً في خلق الوظائف، وفشلاً في توليد الدخول، وفشلاً في سدّ الاحتياجات الأساسية، وفشلاً في بناء البنية التحتية التي تحتاجها المجتمعات. ويتغذّى شعور عام بالإحباط وخيبة الأمل اللذان سرعان ما يتحوّلا إلى عدم استقرار سياسي. 

وطبقاً لمتابعتي المهتمة باليسار وحركات الاشتراكية الديمقراطية حول العالم، تعرّضت الحركات الاجتماعية والنقابات العمّالية والأحزاب السياسية والمؤسّسات السياسية للتدهور الشديد في ظل النيوليبرالية، تُرك الفراغ الناتج عن هذا التدهور مفتوحاً للاستقطاب من قبل تيّارات اليمين المتطرّف. وقد اتخذ هذا الاستقطاب أشكالاً مختلفة، منها يتّخذ أشكالاً تقليدية ومنها يتّخذ أشكالاً مذهلة، وهنا يبرز مثل دونالد ترامب كنموذجٍ دالٍ. وعد ترامب بحلّ مشاكل الناس إذا ما ربطوا مصالحهم به كفرد، حيث لا وجود للأهلية الجماعية. قال «سأعمل لأجلك»، وعندما وصل لم يفعل ذلك بالطبع. أول ما فعله دونالد ترامب كان تطبيق الإصلاح الضريبي لصالح الأغنياء، وليس لصالح القاعدة الانتخابية التي صوّتت له.

لا بد أن يؤدّي ذلك إلى مزيد من الإحباط. إن تصويت الجماعات لذلك الفرد لم تحلّ الأزمات. هنا يمكن لقلقي أن يتسع لفتح المجال أمام نموّ أشكال جديدة من اليمين المتطرّف ونموّ الفاشية، ولذلك اعتبر أن هذه اللحظة السياسية الخطيرة يتشاركها كلّ من الدول المتقدّمة والدول النامية. مع الأخذ في الاعتبار طبعاً المعاناة الإضافية التي تلحق بالدول النامية، مع احتياجها الشديد للنمو الاقتصادي وتوليد الدخول وسدّ احتياجات الناس، غير أن دعاوى «التضخّم» و«الاستقرار المالي» و«القيود المالية» تعرقل ذلك. هذا يحدث في الوقت نفسه الذي تغيب فيه مساءلة مؤسّسات واشنطن بشكل واقعي. ما يحدث هو أن النقاش ينزلق عن تحديد المسؤول عن الإخفاق، فتكون الإجابة هي: الفساد. الفساد مسؤول عن الأزمة، لا بد أنّ هناك من يسرق الأموال، من هو؟ هؤلاء الأعداء الداخليين من النخبة؟ من أيضاً يأخذ مزايا اجتماعية غير مستحقّة؟ الفقراء يسرقوننا. من أيضاً يسرقنا؟ إنها الدول الأجنبية، الصين تسرق الوظائف. لا بدّ من لوم طرف آخر. طرف في الأعلى، في الأسفل، في الداخل أو الخارج، هو المسؤول أمام الجمهور. أنا أعمل، أنا أذهب إلى وظيفتي، أنا مواطن صالح، وأقوم بواجباتي الاجتماعية، فلما لا أنال ما استحق؟

من الجدير بالذكر أنه للمرّة الأولى في تاريخ رأس المال، أي منذ 400 سنة من التاريخ، يأتي جيل يعرف أنه لن يحقّق ما حقّقه آباؤه، وهذا حدث ضخم وثوري. كان يمكنك سابقاً القول لنفسك «حسناً، أفعل هذا وأضحي بعيش حياة صعبة من أجل أطفالي»، لا يمكنك قول هذا مرّة أخرى، أنت تعلم أنك تضحي وتعمل وأن أطفالك سينالوا حياة أصعب ممّا عشت... هذه لحظة فقدان شرعية النظم السياسية والاقتصادية القائمة، ستكون هذه مشكلة حقيقية في كلّ أنحاء العالم.

كيف يمكننا حلّ هذه المعضلة؟ لا أعلم… بسبب غياب الديمقراطية الاجتماعية وغياب الجدل بين اليسار واليمين، هناك مساحة فارغة، يمكن لليمين المتطرّف أن يشغلها وسيكون هذا خطيراً جداً ومدمّراً جدّاً، لكنّها متاحة أمام البدائل كذلك. لكن كيف تظهر هذه البدائل وتحقّق انتصارات سياسية، فهذا غير واضح.

فحص تجربة البرازيل في ظل لولا دي سيلفا: هل هي نموذج؟

عقب بداية الثورة المصرية في كانون الثاني/ يناير 2011، انشغل الكثير بتجربة لولا دي سيلفا في البرازيل. رآها البعض كتجربة ملهمة للحالة المصرية، خصوصاً على مستوى مكافحة الفقر والعدالة الاجتماعية والتنمية الاقتصادية، فيما رأى بعض النقّاد أن التجربة لم تشهد تغيّرات جذرية بشكل حقيقي. كيف ترى تجربة لولا في البرازيل؟

كان لولا دي سيلفا رئيساً للبرازيل قبل الفترة الحالية، في الفترة ما بين 2003 و2010، وتبعته في الرئاسة ديلما روسيف حتى عام 2016. كانت هذه تجربة ديمقراطية اجتماعية تطبّق تحت ظروف أحد البلدان النامية، إعادة تكييف نيوليبرالي للسياسات. شهدت حزمة سياسات من ضمن الدستور البرازيلي القائم منذ 1988، والذي يتضمّن باباً اجتماعياً قوياً، مستلهَماً من دولة الرفاه الاسكندنافية كطموح، ولم يذهب لما هو أبعد من ذلك. وهكذا عمل لولا ببطء واستطاع تحقيق مكاسب كبيرة جداً، لقد حقّق هدف الحدّ من الفقر المدقّع. لقد قضى تقريباً على الفقر المدقّع، بحيث انخفض نسبته من حوالي 10% من سكان البلاد إلى 2 أو 3% فقط. كذلك انخفض الفقر بشكل كبير لأكثر من نصف مستواه، وذلك من خلال الزيادات في الحدّ الأدنى للأجور، ومن خلال مجموعة من المصالح والمكاسب استهدفت مصالح السكان الأكثر فقراً.

كانت هذه سياسات ليبرالية جديدة، يتم التحقّق من صحّتها من قبل البنك الدولي، وتنفّذ في بلدان أخرى أيضاً.

البرازيل بلد كبير نسبياً ولديه موارد، لكن هذه الموارد جاءت نسبياً من طفرة الطلب العالمي على السلع. ما تفعله هذه الطفرة أنها تمطر الأموال على البلدان. إذا كنت لا تعمل بجهد أكبر لإنتاج أي شيء جديد، فإن ما تفعله كافياً لتنال تقديراً أكبر على المستوى الدولي. والحقيقة أن الحكومة استخدمت ذلك بشكل ذكي للغاية، واستطاعت أن تخصّص بعض هذه الموارد لمعالجة مشكلة الفقر، وكان ذلك جيّداً جداً. لكن تكمن المشكلة في أنك إن لم تنفّذ أنشطة اقتصادية مستدامة، فسيستمر الناس في الاعتماد على التحويلات. وبمجرّد استنفاد طفرة السلع العالمية، تقلّصت التحويلات في البرازيل، وأصبح من الصعب للغاية الحفاظ على التقدّم. وهكذا تمّت الإطاحة بديلما روسيف وتدهور الوضع الاجتماعي والاقتصادي للفقراء كثيراً. 

الآن عاد لولا، بالبرنامج نفسه، لكن بلا محرّك للاقتصاد البرازيلي، لا يوجد ازدهار سلعي عالمي الآن كما كان. الاقتصاد الدولي في حالة ركود، أو يعمل بمعدّلات نموّ منخفضة للغاية. الاستهلاك المحلّي منخفض لأن مستوى التوظيف منخفض والرواتب منخفضة، والحكومة تعوقها القواعد المالية. لذلك من الصعب معرفة أين سيجد لولا الموارد لدفع الاقتصاد للنمو مرّة أخرى، وبالتالي توليد الأموال اللازمة لدعم البرامج الاجتماعية. أتمنى أن ينجح، إنهم يحاولون إيجاد حلول مختلفة بخصوص الاستثمار والاستهلاك، لكن أعتقد أن الأمر صعب للغاية. 

من المهم أيضاً الاشارة إلى أن تلك المحاولات تعمل في ظل ائتلاف من القوى الديمقراطية المتحالفة مع لولا، بناءً على وعد «الديمقراطية» فقط. فلولا لم يكن لديه أي شيء مُحدّد في حملته الانتخابية سوى أنه ليس جايير بولسونارو، كان الخطاب الأساسي: «أنا لست ذلك الرجل، لذا صوّتوا لي»، وحدث أن فاز بفارق  1% فقط عن بولسونارو. 

على الرغم من ذلك، اكتسب لولا شرعية هائلة عقب أحداث 8 كانون الثاني/ يناير واقتحام الكونغرس البرازيلي من قبل أنصار الرئيس السابق بولسونارو رفضاً للاعتراف بالهزيمة في الانتخابات الرئاسية، إذ تمكّن بعدها من تقديم نفسه كمدافع عن المؤسّسات الديمقراطية، ومن توحيد جهود الدولة في مواجهة اليمين المتطرّف. لكن ما لم يتمكّن من الحصول على نتائج، أعتقد أن شرعيّته سوف تميل إلى التآكل، كما سيتعرّض لضغوط من شيء ذكرته سابقاً وهو المصالح المالية التقليدية… في هذه اللحظات يحتدم خلاف سياسي كبير حول استقلال البنك المركزي، حيث ينتقد لولا البنك المركزي لإبقائه أسعار الفائدة مرتفعة جداً، في مقابل جزء مهمّ من وسائل الإعلام والاقتصاديين وجماعات الضغط الذين يدافعون عن استقلالية البنوك المركزية، وأنه من الضروري السيطرة على التضخّم.

لست متأكداً من كيفية حلّ هذا النزاع. إنها معركة كبيرة اختارها لولا في بداية إدارته، وآمل أن ينجح في الفوز بها. البنوك المركزية المستقلّة ليست ما تحتاجه البرازيل، وليست ما تحتاجه العديد من البلدان الفقيرة الأخرى. إنهم بحاجة إلى التنمية، يحتاجون إلى توليد الدخل والنمو والتوظيف، وهذه أمور لا تفضي لها عادةً البنوك المركزية المستقلّة.

هل هذا ممكن؟ نعم بالطبع

نشهد الآن في مناطق عدّة في العالم، مثل سريلانكا وغانا وكينيا ولبنان ومصر، أزمات اقتصادية خانقة، تجلّى ذلك في التخفيض الكبير في قيمة العملة المحلّية، ورفع أسعار الفائدة، وفي حضور قوي لأجندة صندوق النقد الدولي. هل لدينا طريقة أخرى للتعامل مع هذه الأزمات من دون أن يقع العبء الأكبر على الشرائح الأفقر في المجتمع؟

هل هذا ممكن؟ نعم بالطبع، وهناك العديد من الأمثلة عن دول اتبعت سياسات اقتصادية مختلفة، لكن الجزء الأكبر من المشكلة هو في أي مرحلة ننشغل بالسياسات البديلة… إذا كنت تفكّر في بدائل فقط بعد تعقّد الأزمات، ويكون لديك عجز كبير في الحساب الجاري وانحصار ميزان المدفوعات في وضعيّة غير مستدامة، وتنفد لديك احتياطات العملات، فإن الوضع يكون صعباً جداً. 

لكن إذا طوّرت في الظروف العادية نموذجاً للنمو يعتمد على الأسواق المحلّية، التي تولي اهتماماً لاستدامة ميزان المدفوعات، والتي تولي اهتماماً لاستقرار الاقتصاد الجزئي، ولكنها تحاول أيضاً توزيع الدخل على الفقراء، وخلق فرص عمل للسكّان، وبناء البنية التحتية، حينها أعتقد أنه من الممكن تماماً القيام بذلك. وهنا يتوجّب التأكيد بأن مفاهيم مجرّدة للغاية يتم أخذها في الاعتبار في الظروف الخاصة لكلّ بلد.

هل لك أن تعطينا مثالاً على إجراء ناجح تم اتخاذه في مواجهة إحدى هذه الأزمات، ربما في آسيا أو أميركا اللاتينية؟

في أميركا اللاتينية حيث عانت القارة من أزمة اقتصاد جزئي في الماضي. الأرجنتين مثلاً بعد تخفيض أسعار العملة المحلّية في عامي 2000 و2001، تفكّك اقتصادها وانهارت الدولة. نسيت العدد بالتحديد، ولكن تغيّر 3 أو 4 رؤساء في غضون أسابيع. كان الأمر مأساوياً للغاية، لكن كان من الممكن تحقيق الاستقرار في وضع الاقتصاد الجزئي عبر التحويلات والاستفادة من بداية انتشار «السلع العالمية» وإجراء تحوّلات في السياسة المحلّية. 

في ما يتعلّق بالسياسات الاقتصادية طويلة المدى، يمكنني التفكير في عدّة أمثلة ناجحة، مثل كوريا الجنوبية، وكذلك تايوان، ودول النمور الآسيوية بصفة عامة، نجحت ماليزيا بشكل نسبي، لكنها أصبحت محاصرة مؤخّراً بما يسمّى «فخّ الدخل المتوسّط»، وهو تعبير عن وضع بلد يحقّق تقدّماً كبيراً، ثمّ يتعثر. وهذا وضع يشبه ما يحدث في تايلاندا وإندونيسيا بدرجة ما.

أعتقد أن الصعوبة التي تواجهها العديد من البلدان النامية هي امتصاص صدمات الاقتصاد العالمي. كلّما كانت لديك أزمة، فإن البلدان النامية تعاني أولاً، لأن الاقتصادات المتقدّمة تستقرّ على حساب نقل الصدمة إلى تلك البلدان التي تقع تحت وطأة تقسيم العمل العالمي.

الصعوبة الآن هي أن الغرب عالق في دورة الركود هذه. وهذا يعني أنه من الصعب جداً العثور على أسواق للتصدير، أو إدخال تقنيات جديدة أو الاستثمار. مع ذلك، أعتقد أن التطلّع إلى المستقبل سيكون أمراً جيّداً للبلدان النامية، لأنه إذا تعذّر العثور على الطلب في الاقتصادات المتقدّمة في الغرب، فقد يكون هناك طلب في البلدان في الجنوب العالمي. ربما يكون التعاون في ما يتعلّق بالتقنيات الجديدة فائزاً محتملاً، وكذلك البرامج الاجتماعية لتوزيع الدخل. 

الآن تبقى المشكلة طويلة الأمد التي ستواجهها هذه البلدان، وهي مشكلة الاحتباس الحراري وتغيّر المناخ الذي لم يتسبّبوا فيه من البداية، لكنّهم عانوا من العواقب أولاً. أعتقد إلى حدّ كبير أن معظم البلدان تفعل القليل جداً، وستكون آثار تغيّر المناخ هائلة. 

هناك أطفال على قيد الحياة اليوم سيكونون موجودين بالفعل في نهاية القرن الحالي، إذن ما نوع العالم الذي سيرونه؟ يتوجّب على البلدان النامية أن تأخذ زمام المبادرة في معالجة مشكلة تغيّر المناخ، مع الأخذ بجدّية كبيرة التوقّعات بشأن دول الشمال والمطالب التي يجب أن توجّه إليها. دول الشمال مطالبة أن تدفع جزءاً كبيراً من تكاليف التكيّف مع تغيّر المناخ والتخفيف من حدّته، لأن الشمال العالمي استفاد أولاً، ولأن لديه المزيد من الموارد، ولأنه يلحق الضرر بالجنوب.

إذا تمكّنت دول الجنوب من وضع تفاهمات، ثمّ فرض تلك المطالب على شمال العالم، فأعتقد أنه سيكون هناك شيء مهمّ للغاية يمكن أن يكون مفيداً للغالبية العظمى من البشرية التي تعيش في بلدان الجنوب. ولكن حتى ذلك الحين، سنستمر في رؤية الأزمات في البلدان تظهر هنا وهناك، وهي حتمية في ظل الركود العالمي. وإلى أن نتعامل مع تغيّر المناخ بجدّية يستحقّها، فإننا سنستمر في تقليص إمكاناتنا للنمو في المستقبل، ثم سنخلق وضعاً رهيباً مع الكوارث التي تظهر باستمرار. وسيكون هذا حقّاً مأساوياً.

هذه ليست مسألة مستحيلة، ليست ثورية، ليست معجزة، لكنها عادلة

عادة ما نرى فصلاً بين كيفية التعامل مع الفقر والتعامل مع الفقراء، لكنك حاولت في كتاباتك رسم سياسات بديلة تدمج بين سياسات التعامل مع الفقر وسياسات التعامل مع اللامساواة، لماذا؟ وكيف يمكن تحقيق ذلك في العالم الذي نعيش فيه الآن؟

تتمثّل إحدى مشكلات السياسات التقليدية للتصدّي للفقر أو الفقر المدقع في أنها تستند في نهاية المطاف إلى التحويلات الصغيرة إلى الأشخاص الذين يعانون من الفقر المدقع والضعفاء. وينتهي الأمر بخلق نمط لإدارة الفقر فقط. أنت لا تقضي عليه في الواقع، أنت فقط تتعامل معه على الهامش. وإذا نظرت إلى البيانات الخاصّة بالحدّ من الفقر العالمي، فإنها تبدو مثيرة للإعجاب. لكن إذا قمت بفحص البيانات بمزيد من التفصيل قليلاً، فإن ما حدث هو أنك نقلت مئات الملايين من الناس قليلاً فوق خطّ الفقر. لذلك، بحكم التعريف، لم يعودوا فقراء بعد الآن، لكن في الواقع لم يعد الوضع مستقرّاً واحتياجاتهم لا تزال موجودة، ومع أي تقلّبات في الاقتصاد العالمي يعودون للفقر مرّة أخرى. هذا ليس حلّاً مستداماً. للحصول على حلّ مستدام، فأنت بحاجة إلى أشكال جديدة لتوليد الدخل يمكن أن تشمل هؤلاء الأشخاص، بحيث لا يكونون بطريقة مستدامة فقراء، وبحيث يمكنهم تلبية احتياجاتهم الأساسية.

في الوقت نفسه، رسّخت النيوليبرالية ديناميكيات مركّزة لتوزيع الدخل في العديد من الاقتصادات في العالم، فيما بات يشكّل سياسة خاسرة وغير عادلة، كما أنه يفقدها الشرعية السياسية أيضاً. وأعتقد أن أي استراتيجية تنموية لكي تكون شرعية سياسياً، يجب أن تعالج هاتين المشكلتين في الوقت نفسه. إذا لم تكن استراتيجية التنمية شرعية من الناحية السياسية، فلن تكون مستدامة، ولا يمكن تبريرها.

ي عالم يستطيع فيه كبار المليارديرات إطلاق صواريخ إلى الفضاء ليقولوا إنهم كانوا هناك. هذا سخيف تماماً. التصرّف في الثروة وتوزيعها، هذا غير مبرّر أخلاقياً تحت أي معيارفي العالم الذي يتمتّع بالثروة التي يمتلكها، من غير المعقول أن تعاني من الفقر المدقع كما نرى، وأن تعاني من الجوع، وأن يكون هناك أشخاص بلا مأوى. في عالم يستطيع فيه كبار المليارديرات إطلاق صواريخ إلى الفضاء ليقولوا إنهم كانوا هناك. هذا سخيف تماماً. التصرّف في الثروة وتوزيعها، هذا غير مبرّر أخلاقياً تحت أي معيار. الثروة ليست مكافأة على المخاطرة. هذه الثروة ليست مكافأة على الفضيلة الفردية. إنه مجرّد تخصيص لأرباح الاحتكار بشكل لا يجوز السماح بحدوثه. عدد المليارديرات في العالم، والأرباح التي حقّقها المليارديرات في خلال جائحة كوفيد، كلّ هذا غير مبرر. وأعتقد أن استراتيجية التنمية الديمقراطية سوف تستند إلى ضغط الثروة التي تمّ تخصيصها بشكل غير عادل من أولئك الواقفين على قمة التوزيع، ويمكن أن يطلق ذلك كمّيات هائلة من الموارد لمعالجة المشاكل الملحّة للغالبية العظمى.

هذه ليست مسألة مستحيلة، ليست ثورية، ليست معجزة، لكنها عادلة. أعتقد أنها ستخلق ظروفاً لاستعادة الديمقراطية على أساس تلبية الاحتياجات الأساسية للسكّان.

لسنا في وضع مريح للقيام بأي من هذا، لكنني أعتقد أنه من الضروري المحاولة، من الضروري عكس السبب، والاعتراف بأن ما تمّ القيام به في الأربعين إلى الخمسين عاماً الماضية لم ينجح. لم تستفد منه الغالبية العظمى وهناك احتياجات تتزايد في العديد من البلدان. لا يمكننا أن نجلس ونتوقّع أنه من خلال تكرار السياسة القديمة، سيحدث شيء جديد.

نحن نتفق. رائع

سؤالنا الأخير. لقد كتبت كتاباً عن «رأس المال» كارل ماركس، وهو الآن في طبعته السادسة. كيف ترى أهمّية «رأس المال» وماركس في التنمية والاقتصاد أو الاقتصاد السياسي في العالم الذي نعيش فيه، في القرن الحادي والعشرين؟ من الواضح أنك تعتبرها ذات صلة.

أنا أعتبرها ذات صلة لأن النظام الاقتصادي اليوم هو في الأساس نفسه منذ 200 عام، وقد قام ماركس بتحليله بوضوح كبير وبصيرة نافذة حول العلاقات بين أصحاب الملكية والعاملين بأجر، والدافع الرأسمالي الحقيقي للتقدّم التكنولوجي، والميل إلى خلق البطالة، وميل الرأسمالية إلى خلق أنماط معاكسة للتوزيع وتركيز الثروة وما إلى ذلك... شوهدت هذه الميول بوضوح شديد قبل 200 عام. يجب احترام ذلك. أعتقد أنه بالنسبة لأي شخص مهتم بالعلوم الاجتماعية، وأي شخص غير راضٍ عن العملية السياسية العالمية، أن يأخذ أعمال ماركس بجدّية. أنظر فيه، حدّد ما هو رأيك فيه، ثم افعل ما تعتقد أنه يجب القيام به على أساس الاستنتاجات. أنا آخذ الأمر على محمل الجدّ. أعتقد أنه يقدّم تقييمات مهمّة للغاية ونهجاً لفهم الرأسمالية العالمية اليوم.

نحن نتفق.

رائع.


ألفريدو سعد- فيليو: اقتصادي، باحث وأكاديمي برازيلي، أستاذ الاقتصاد السياسي والتنمية الدولية في كينغز كوليدج لندن، وأستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة SOAS بين عامي 2000 و2019، وكان المسؤول الأول للشؤون الاقتصادية في منظّمة مؤتمر الأمم المتّحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد). يُعرف على نطاق واسع بتحليلاته المعمّقة للسياسات المالية والنقدية والمالية وميزان المدفوعات والتوظيف والتضخّم واستخدام الموارد… وانتقاداته لإجماع واشنطن وسياسات البنك وصندوق النقد الدوليين، وله مساهمات جمّة في هذا المجال: 9 كتب، و50 فصلاً في كتب مشتركة، و70 مقالة صحافية، بالإضافة إلى 30 تقريراً ومساهمات أخرى للأمم المتّحدة والوكالات الدولية الأخرى، منها الأونكتاد، وبرنامج الأمم المتّحدة الإنمائي، واللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا، وإدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية التابعة للأمم المتّحدة. 

وائل جمال

باحث في الاقتصاد السياسي وصحافي، مدير وحدة العدالة الاجتماعية والاقتصادية في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية. 

عمر سعيد

صحافي ومحرّر مصري.

  • 1طُرح برنامج «إجماع واشنطن» كوصفة نيوليبرالية لحلّ أزمات الرأسمالية في الدول الفقيرة والنامية في العام 1989
  • 2نظرية تتكئ على قدرة الدولة على طباعة النقود كجزء من دورها الاقتصادي.